المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متاع قليل


امانى يسرى محمد
05-23-2022, 11:49 AM
متاع دنيء
إن في هذه الأرض متاعًا جذَّابًا وبرَّاقًا من النساء، والبنين، والأموال الكثيرة من الذهب والفضة، والخيل الحسان، والأنعام من الإبل والبقر والغنم، والمزارع والبساتين، والجاه والسلطان، وكل ذلك لا يتعدى إلا أن يكون (زينة) تخطف الأبصار، وتنجذب لها النفوس.



ومن أجل الدنيا يصول الإنسان ويجول، وبسببها يحدث النزاع، وتُقَّطَّع الأرحام، ويتفرَّق الناس، ثم لا يلبثون حتى يفجأهم الأجل بغتة، فيودِّعون الدنيا، ويفارقون جميع ما فيها.
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾.


اعلموا أن أموالكم التي استخلفكم الله فيها، وأولادكم الذين وهبكم الله؛ إنما هي اختبار وابتلاء من الله؛ ليعلم أتشكرونه عليها، وتطيعونه فيها، أو تنشغلون بها عنه؟ واعلموا أن الله أعدَّ لمن أطاعه واتقاه الثواب العظيم والخير الكثير.



فإن الأموال والأولاد فيهما من الجمال والقوة والتفاخر ما يشهد به الواقع وتشاهده الأعين، لاسيما المال؛ فعن كعب بن عياض -ا- قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله ه يقول:"إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتنَة، وَفِتنَةُ أُمَّتِي المَال"





{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أي: عند الله وحده العاقبة الحسنى، والمرجع الحسن، والذي هو جنة الخلد.



ومن لطيف الآية أنها بدأت بذكر النساء:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ}؛ لأن النساء أشد شهوات الدنيا خطراً، وأعظمها أثراً وضرراً على دين الناس

عن أبي سعيد الخدري ا قال: قال رسول الله ه:"إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ"(.



فرغم أن السياق سياق تحذير من الدنيا، إلا أنه بعد ذلك جاء تخصيص النساء بالذكر فقال (فاتقوا الدّنيا، واتّقوا النِّساء) مع أن النساء من الدنيا، ومما يزيد الأمر بياناً، والتحذير إيضاحاً قوله(فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِى النِّسَاءِ)؛ تأكيداً على شدة الافتتان بالنساء.



ويُستثنى من ذلك المرأة الصالحة، فإنها خير متاع الدنيا، فعن عبد الله ابن عمرو ب، أن رسول الله ، قال:"الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَالِحٍةُ"؛ لكنها إذا فسدت كانت أشدَّ وأضرَّ فتنةٍ على الرجال، وربما حصلت الفتنة بالمرأة دون فسادٍ أو قصدٍ منها، قال ه:"مَا تركت على أمتِي بعدِي فتْنَة أضرّ على الرِّجَال من النِّسَاء"



وقوله(فاتقوا الدنيا) فيه بيان واضح لخطر الدنيا وشدة الافتتان بها؛ فإن الدنيا محببة للنفوس، مزيَّنة للناظرين؛ لذا وصفها الحبيب ه بقوله(حلوة خضرة).





والمراد: فلا تغرنكم الدنيا بحلاوتها وخضرتها؛ فإن حلاوتَها في حقيقة الأمر مرارة، وخضرتَها في نهاية المطاف يُبسٌ وجفاف.



إن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهَّال من التمتع بزخارفها، والتنعّم بملاذِّها، والغفلة عن الحقيقة والغاية:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، بينما حقيقة الدنيا أنها مجازٌ ومعبرٌ إلى الآخرة، زاد الموفَّق فيها العلم النافع:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، والعمل الصالح:{وَتَزَوَّدُو ا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].


https://akhawat.islamway.net/forum/applications/core/interface/imageproxy/imageproxy.php?img=https://upload.3dlat.com/uploads/3dlat.net_17_17_967b_360902e7440117.png&key=d34be5ded5b6604afa73e0f399977e3f7de43e66f5e9e7d45ed107ce91999052 (https://upload.3dlat.com/uploads/3dlat.net_17_17_967b_360902e7440117.png)
متاع قليل



أمر الله -سبحانه وتعالى- نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أن يُنبّه قومه وأُمَّته بقلة متاع الدنيا وحقارته؛ ليعلموا أن متاع الدنيا مهما عظم ومهما طال ومهما سبى بريقُه العيون فهو بالنسبة للآخرة قليل: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، وإلى ذلك جاءت الإشارة في الحديث، حيث ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثالًا يبين حقارةَ الدنيا وقلةَ متاعها؛ فعن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ»، وأشار بالسبابة.



فما الدنيا في قصر مدتها وفناء لذتها بالنسبة للآخرة -في دوامها ودوام لذاتها ونعيمها- إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر؛ فكما أن القدْر الذي يعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدْر له ولا شأن يذكر فكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة؛ الدنيا كالماء الذي يعلق في الإصبع من البحر، والآخرة كسائر البحر.


{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ }

وهذا بالنسبة إلى ذاتها، وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا قدْر لها ولا خطْر، وإنما أورد ذلك على سبيل التمثيل والتقريب، وإلا فلا نسبة بين الزائل وبين الباقي.


يا أيها البشر: مهما حصَّلتم وجمعتم من ملك ورياسة، وأموال وبنين، وصحة وعافية بدنية فإنما هو متاع الدار الدنيا؛ دار دنيئة فانية زائلة


لا محالة، متاعها محشوٌّ بالمنغِّصات وممزوجٌّ بالغصص.


وإنما يُدرك حقيقة الدنيا من رُزق الإيمان؛ كحال مؤمن آل فرعون حين وقف ناصحًا ومزهِّدًا لقومه في الدنيا التي آثروها على الآخرة، وصدَّتهم عن الإيمان: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر : 39].

إنما هذه الحياة الدنيا حياة يتنعَّم الناس فيها قليلا ثم تنقطع وتزول، إنه مجرد متاع ليس من العقل الركون إليه، وإن الدار الآخرة بما فيها من النعيم المقيم هي محل الإقامة والاستقرار، وهي الجديرة بالإيثار؛ فحريٌّ أن نعمَل لها؛ لنسعد مع الأبرار في دار البقاء والقرار.






متاع الغرور


إن متاع الدنيا وزخرفها -على قلته وحقارته- غُرورٌ خدَّاعٌ، وسببُ افتتان كثيرٍ من الناس، وقد حذَّر الله من الدنيا والاغترار بها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر : 5].



إن يقين اللبيب بملاقاة الأجل يحجزه عن الركون إلى لذة عاجلة فانية؛ إذ كل نفس لابدّ لها وأن تذوق الموت، فيرجع الخلق كلهم أجمعون لملاقاة ربِّ العالمين؛ ليحاسبهم على ما قدَّموا وعملوا.

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [آل عمران : 185]


الدنيا متاعٌ فانٍ يغتر به كل من ركن إلى النفس والهوى؛ فالدنيا تعجب كل ناظر يعتقد أن لا دار سواها، ولا معاد وراءه؛ فهو في لهث وراء الدنيا وغفلة عن الدار الآخرة، وهي آتية قريبة: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد : 20]

إنه متاع، ولكن ليس متاع الحقيقة، إنه متاع الغرور، المتاع الذي يَخْدَعُ الإنسان فيحسب المرء سعادته ومتعته فيه، المتاع الذي يُلهي ويُنسي فينتهي بأهله إلى غُرور خادع.


عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا» قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا؟ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «بَرَكَاتُ الْأَرْضِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ: «لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا([1]) أو يُلِمُّ([2])، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ، فَإِنَّهَا تَأْكُلُ، حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ وَبَالَتْ وَثَلَطَتْ([3])، ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ، كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ»).


وهذا مَثَلٌ ضربه النبي صلى الله عليه وسلم؛ مبيناً أقسام الناس في الانتفاع بالدنيا والتعامل معها.


فالأول: المغترَّ المفرِّط في جمع الدنيا المانع من الحق، فهو كالماشية التي تستكثر مما يُنبت الربيع من جيِّد البقول والعشب ولا تشبع؛ لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونُها عند مجاوزتها حد الاحتمال، فتنشق أمعاؤها، فتهلك أو تقارب الهلاك.





والثاني: المقتصد في أخذ الدنيا والانتفاع بها؛ فهو كالماشية التي تأكل الخضر؛ فإنه ليس من جيد البقول التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره فيجعلها تنعم وتسمن، ولكنه من البقول التي ترعاها المواشي بعد هَيْجِ البقول ويُبسها؛ حيث لا تجد سواها، وتسمى الجَنْبَة، فلا تكثر الماشية منها، فَأَكْلُها مَثَلٌ لمن يقتصد في أخذ الدنيا؛ فهو ينجو من وبالها كما نجت آكلة الخضر؛ فإنها إذا شبعت منها بركت مستقبلةً عين الشمس تستمرئ ما أكلت وتجترّ وتخرج الأذى، فيزول الحَبَط؛ الذي يكون بالامتلاء، وانتفاخ الجوف به.


إن التَّعلق بالدنيا ومتاعها، والركون إلى الملذَّات والدُّون من أعظم المعوقات التي تحول بين المؤمن والمعالي.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} [التوبة : 38]

وهو عتاب من الله للمؤمنين لمَّا تكاسلوا عن القتال وقد أُمروا به.


هل آثرتم حظوظكم الدنيوية على نعيم الآخرة؟ هل اغتررتم بالعاجل الفاني حتى أنساكم الآجل الباقي؟ فما تستمتعون به في الدنيا قليل زائل؛ أما نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين المجاهدين فكثير دائم.




إن الاغترار بالقليل الزائل يقود إلى الخوف والرهبة من الناس ومن لقاء أعداء الله؛ حتى يصير خوف المرء من الناس كالخوف من الله أو أشد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} [النساء : 77].

فهم يُعلنون عمَّا اعتراهم من شدة الخوف، ويقولون: ربنا لِمَ أَوْجَبْتَ علينا القتال؟ هلا أمهلتنا إلى وقت قريب؟ رغبةً منهم في متاع الحياة الدنيا، فجاء الجواب؛ قل لهم -أيها الرسول-: متاع الدنيا قليل، والآخرة وما فيها أعظم وأبقى لمن اتقى الله؛ فعَمِل بالأوامر والطاعات، واجتنب النواهي والمحرمات؛ فإن الله لا يظلم أحدًا شيئًا، ولو كان ﴿ﯚ﴾ وهو مقدار الخيط الذي يكون في شق نَواة التمرة.


إن الدنيا ومتاعها البراق يمنعان العبد من الوصول إلى العظائم والمكارم وإلى طريق التقوى وتزكية النفس وتربيتها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى : 14 - 17]؛ أي: قد فاز وربح وظفر بالمطلوب وبما يرجوه، ونجا من المرهوب والمكروه، كلُّ من تطهر وتنقَّى باطنُه من الشرك بالله عزَّ وجل، وزكَّى نفسه وطهرها من الشك والنفاق، والمعاصي ومساوئ الأخلاق، ثمَّ تحلَّى بذكر الله، وانصبغ به قلبه ولسانه: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة : 138].

﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾

إن الإنسان كلما ذكر اسم الله اتعظ وأقبل إلى الله؛ فأوجب له ذلك زيادة إقبال على العمل الصالح؛ فأقام الصلاة التي هي ميزان الإيمان، وحقيقة الذكر وعلامته: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه : 14] .

ثم ذَكَرَ اللهُ بعد ذلك الدنيا، وأنَّها حائلٌ يمنع ويحول بين العبد وبين صلاح الدنيا والآخرة.

{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى : 16]

و﴿بَلْ﴾ هنا للإضراب الانتقالي؛ لبيان حال الإنسان في إيثار العاجل على الآجل؛ أي: بل تختارون نعيم الدنيا المنغِّص المكدِّر الزائل وتقدِّمونها على أمر الآخرة الباقية، وتستبدلونها بالذي فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم.

وتعبير القرآن بالإيثار بليغ؛ فإن المرء الصادق مع ربه، والعادل مع نفسه يعلم يقيناً أنه حال ضعف إيمانه يقدِّم ويؤثر الدنيا على الآخرة.


والمراد بإيثار الحياة الدنيا: هو الرضا بها، والاطمئنان إليها، والإعراض عن الآخرة بالكلية: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)} [يونس : 7]؛ فالكافر يؤثرها إيثار كفر وإعراض؛ لأنه لا يؤمن بالآخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله تعالى، وأعظم سبب في ذلك كله هو جهل الإنسان وعدم علمه بالحقائق: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت : 64]، إضافة إلى طبيعة خلق الإنسان حيث خُلق من رحم الاستعجال: ﴿{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} ؛ لذا فمن طبيعة الإنسان حب العجلة في الأمور كلها، وإيثار العاجلة وهي الدنيا: {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} [القيامة : 21 - 22].


قيل: لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاةُ قال: ائتوني بكفني الذي أُكفَّن فيه أنظر إليه، فلما وُضع بين يديه نَظَر إليه فقال: أمَا لي من كَبِير ما أُخلِّف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول: أفٍّ لكِ من دار؛ إن كان كثيرُك لقليل، وإن كان قليلك لقصير، وإن كنا منك لفي غرور.

قال حكيم: لا تركن إلى الدنيا؛ فإنها لا تبقي على أحد، ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها.

قال علي رضي الله عنه: الدنيا تضرُّ وتغرُّ وتمرُّ.

وقيل لحكيم: كيف ترى الدنيا؟ قال: تحلُّ يومًا في دار عطار، ويومًا في دار بيطار، وطَوْرًا في يد أمير، وزمنًا في يد حقير.


https://akhawat.islamway.net/forum/applications/core/interface/imageproxy/imageproxy.php?img=https://upload.3dlat.com/uploads/3dlat.net_17_17_967b_360902e7440117.png&key=d34be5ded5b6604afa73e0f399977e3f7de43e66f5e9e7d45ed107ce91999052 (https://upload.3dlat.com/uploads/3dlat.net_17_17_967b_360902e7440117.png)

إلى الله المصير



هبْ أنك عشت في النعيم، وذقت ألوان المتاع، وطال بك المقام بين النضرة والسرور؛ فإنك ولابد مفارقه، ثم إلى ربك المرجع والمصير: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 23].


يا أيها الناس غاية ما تؤملون ببغيكم، وشرودكم عن الإخلاص لله أن تنالوا من حطام الدنيا، وجاهها النزر اليسير الذي سينقضي سريعًا ويمضي جميعًا، ثم تنتقلون عنه بالرُّغْم.
إنّ بغيكم واعتداءكم على أنفسكم وظلمكم لها هو متاع في الحياة الدنيا سريع الزوال، لا تزيدون عليه، ثم إلى الله مصيركم ومرجعكم، فيخبركم بجميع أعمالكم، ويحاسبكم عليها، ويوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ولقد توعد الله بالعذاب الشديد في النار لمن كذب أو جحد فقال: ﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾
[يونس: 70]، فحقيقة الأمر أنهم إنما يتمتعون في الدنيا بكفرهم وكذبهم متاعًا قصيرًا، ثم إذا انقضى أجلهم فإلى الله مصيرهم، ثم يذيقهم عذاب جهنم الموجع المؤلم؛ بسبب كفرهم بالله، وتكذيبهم رسل الله، وجحدهم آياته.
هي- والله - النظرة القاصرة، والفكرة اللاهثة، والحركة المتعجلة وراء متاع قليل تعقبه حسرة دائمة وشقاء نافذ: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل: 117]،
وربما تعلَّقت نفسٌ بكبراءَ وسادةٍ وأصحابِ دنيا وجاه؛ حتى تزينت الضمائر بطول الركون إلى حبال واهية تهوي بها في نار حامية.


وكثيراً ما يقود المتاع صاحبه إلى رفض الحق، بل يقوده إلى إضلال الآخرين وصدِّهم عن الهدى، ومن الناس مَن جعل لله شركاء عبدوهم مع الله؛ ليبعدوا الناس عن دينه: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾ [إبراهيم: 30]، قل لهم أيها الرسول: تمتعوا في حياتكم الدنيا؛ فإنها سريعة الزوال، وإن مردَّكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم، وبئس المصير.


لكنها الغفلة المطبِقة، والجهل المركَّب، والاغترار بطول المتاع، فإذا جاء أمر الله ووعده الحق تلاشت سِنُونَ المتاع كأن لم تكن، ولم تغن من عذاب الله شيئًا: ﴿ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾ [الشعراء: 205-207].
أي: إن متعناهم في الدنيا برغد العيش، وصافي الحياة، ثم جاءهم بعد تلك السنين المتطاولة، والدهور المتواصلة ما كانوا يوعدون؛ مما طال إنذارُك إياهم به، وتحذيرُك لهم منه؛ أيُّ شيءٍ أغنى عنهم ذلك المتاع الفاني؟! لاجرم أنه لم يغنِ عنهم من عذاب الله شيئًا.


فجعلناها حصيداً



ضرب الله لنا مثالًا في غيرِ ما آيةٍ من كتابه الكريم يصوِّر لنا حقيقة متاع هذه الدنيا؛ والناس لا يملكون من الدنيا إلا متاعها، وفوق ذلك فإنهم يرضون بها، ويقفون عندها، ولا يتطلعون إلى ما هو أكرم وأبقى؛ رغم أن حقيقة ذلك المتاع هو ما يصوِّره القرآن كثيراً، بل ويضرب له الأمثال: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

هذا هو الماء ينزل من السماء، وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيَمْرَعُ([1]) ويزدهر، وها هي الأرض كأنها عروسٌ مَجْلُوَّةٌ([2]) تتزين لعرس وتتبرج، وأهلها مزهوون بها، يظنون أنها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزينت، وأنهم أصحاب الأمر فيها؛ لا يُغيُّرها عليهم مُغَيِّر، ولا ينازعهم فيها منازِع.

وفي وسط هذا الخِصْبِ المُمْرِع، وفي نشوة هذا الفرح المُلَعْلِع([3])، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة، وذلك مقصودٌ في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخِصْبِ والزينة والاطمئنان.



وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس، ويضيِّعون الآخرة كلها؛ لينالوا بعض المتاع.

هذه هي الدنيا؛ لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئا إلا بمقدار.



هذه هي الدنيا، بينما الخير المُؤمَّل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].

فيا لبعد الشُّقَّة([4]) بين دار يمكن أن تُطمس في لحظة، وقد أخذت زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، فإذا هي حصيدٌ كأن لم تغن بالأمس، ودار السلام التي يدعو إليها الله، ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها حينما تنفتح بصيرته، ويتطلع إلى دار السلام.



{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].

وجاء عرض هذا المشهد قصيراً خاطفًا ليلقي في النفس ظلَّ الفناء والزوال؛ فالماء ينزل من السماء، فيخرج به النبات بإذن الله، فيصير مُخْضرًّا، وما هي إلا مدة يسيرة حتى يصبح النبات هشيمًا يابسًا متكسرًا، تذروه وتنسفه الرياح إلى كل جهة، وما بين ثلاث جمل قصار، ينتهي شريط الحياة.



إن الدنيا لا تعدو ما ذكره الله تعالى مصورًا الدنيا كلها بصورة هزيلة زهيدة تُهوِّن من شأنها، وترفع النفوس عنها، وتُعلِّقها بالآخرة وقِيمها: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].

اعلموا - أيها الناس- أنما الحياة الدنيا لعب ولهو ؛ لعب تلعب به الأبدان، ولهو تلهو به القلوب، وزينة تتزينون بها، وتفاخر بينكم بمتاعها، وتكاثر بالعدد في الأموال والأولاد.



والحياة الدنيا حين تقاس بمقاييسها وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرا عظيما هائلا، ولكنها حين توزن بميزان الآخرة تبدو شيئا زهيداً تافهًا! وهي هنا في هذا التصوير تبدو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جِدٍّ تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة! لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر، هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدو فيها من جدٍّ حافل، واهتمامٍ شاغل.



والدنيا يُعْجَب لزخرفها وغرورها البشرُ، ويزداد العُجْب بها حين يغادر الإيمانُ القلبَ ويَحِل فيه الكفر والظلمة، وهكذا يمضي القرآن مصوِّراً حال الدنيا:
{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} فمثلها كمثل مطر أعجب الزرّاع نباته، فالكافر في اللغة هو الزارع؛ لأنه يَكْفُرُ الحبَّة، أي: يحجبها ويغطِّيها في التراب؛ ولعلَّ اختيار لفظ {الْكُفَّارَ} هنا فيه تورية وإلماح إلى إعجاب الكافرين بالحياة الدنيا.

{ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} أي: ثم يهيج هذا النبات فييبس ويصفر بعد خضرته؛ فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلا ويبلغ أجله قريبا, ثم يكون فُتاتًا يابسًا متهشمًا.



وأما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن؛ شأن يستحق أن يُحسب حسابه، ويُنظر إليه، ويُستعد له؛ لأن الآخرة لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا، ولا تنتهي إلى حطام مثل ذلك النبات البالغ أجله، إنها حساب وجزاء، ودوامٌ يستحق الاهتمام والاعتناء!
{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} هناك في الآخرة عذاب وخزي وخسران لأهل الكفر والفساد والطغيان، يقابله مغفرة ونعيم ورضوان لأهل التوحيد والتقوى والإيمان.



{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: (وما الحياة الدنيا) لمن عمل لها ناسيًا آخرته (إلا متاع الغرور)؛ فهي تبدأ وكأنها نشوة الشباب، ثم سُرعان ما يصيبها الهرم، ثم الفناء.

قال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: الدنيا خمر الشيطان؛ من سَكِرَ منها لم يُفٍق إلا في عسكر الموتى نادمًا مع الخاسرين.

والله يدعونا إلى دار القرار وحقيقة المتاع، إلى الغاية الكريمة التي تستحق السباق، والتي ينتهي إليها المصير، وفيها عالم البقاء: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]؛ فليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شَبُّوا عن الطَّوْقِ([5])، وتركوا عالم اللهو واللعب للأطفال والصغار؛ إنما السباق إلى ذلك الأفق السامي، وإلى ذلك الهدف النبيل، وإلى ذلك الملك العريض: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ}.
###

[1] أي: يُخْصِب بكثرة العشب والكلأ.
[2] جَلَوتُ الْعَرُوس أجلوها جلاء فهي مَجْلُوَّةٌ؛ إِذا أبرزتها، والمصدر فيهما الجلاء.
[3] أي: المُدَوِّي.
[4] أي: المسافة الشاقَّة.
[5] في المثل: (شبَّ عمرٌو عن الطوق)؛ وهو عمرو بن عدي، وكان أتى إلى خاله جذيمة الأبرش الملك وقد ألبسته أمُّه طوقًا فقال خاله جُذيمة: (شبَّ عمرو عن الطوق)؛ أي: كبر، فذهب مثلًا للرجل يعمل شيئا وهو لا يَحْسُن به أن يعمل مثله، كالشيخ يتصابى، والعجوز تتشبه بالشّوابّ.


https://akhawat.islamway.net/forum/applications/core/interface/imageproxy/imageproxy.php?img=https://upload.3dlat.com/uploads/3dlat.net_17_17_967b_360902e7440117.png&key=d34be5ded5b6604afa73e0f399977e3f7de43e66f5e9e7d45ed107ce91999052 (https://upload.3dlat.com/uploads/3dlat.net_17_17_967b_360902e7440117.png)








السكرة العاجلة


العجلة والاستعجال طبيعة بشرية عميقة الجذور في تكوين الإنسان:



{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)} [الأنبياء : 37]


وتلك الطبيعة هي ما يدفع الناس نحو النظرة الدونية، والاغترار بالقريب الفاني، والغفلة عن البعيد الباقي، والنافع الدائم: {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} [القيامة : 21 - 22]، ومجموع ذلك كله هو ما يؤدي إلى التقصير والغفلة، ومن ثم الوقوع في الزلل.

قال الغزالي: اعلم أن مَثَل أهل الدنيا في غفلتهم كمثل قوم ركبوا سفينة، فانتهوا إلى جزيرة مُعْشِبَةٍ، فخرجوا لقضاء الحاجة، فحذَّرهم الملاح من التأخر فيها، وأمرهم أن يقيموا بقدر حاجتهم، وحذَّرهم أن يقلع بالسفينة ويتركهم.

فبادر بعضهم فرجع سريعا؛ فصادف أحسن الأمكنة وأوسعها، فاستقر فيه.

وبعضهم استغرق في النظر إلى أزهار الجزيرة المونقة، وأنهارها المطَّردة([1])، وثمارها الطيبة، وجواهرها ومعادنها، ثم تنبَّه لخطر فوات السفينة فرجع إليها، فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً، فاستقر فيه.

وبعضهم أكبَّ على تلك الجواهر والثمار والأزهار، ولم تسمح نفسه تركها، فحمل منها ما قدر عليه، فتشاغل بجمعه وحمله، فوصل إلى السفينة فوجد مكانا أضيق من الأول، ولم تسمح نفسه برمي ما استصحبه، فصار مثقلا به، ثم لم يلبث أن ذبلت الأزهار، ويبست الثمار، وهاجت الرياح، فلم يجد بُدًّا من إلقاء ما استصحبه حتى نجا بحُشاشة نفسه([2]).

وبعضهم تَوَلَّج في الغياض([3])، وغَفَل عن وصية الملَّاح، ثمّ سمع نداءه بالرحيل، فمر فوجد السفينة سارت، فبقي بما استصحب في البر حتى هلك.

وبعضهم اشتدت به الغفلة عن سماع النداء؛ فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه على وجهه حتى هلك، ومنهم من مات جوعا، ومنهم من نهشته الحيَّات.

فهذا مثل أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، وغفلتهم عن عاقبة أمرهم، وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن يغتر بالأحجار من الذهب والفضة، والهشيم من الأزهار والثمار([4])، وهو لا يصحبه شيء من ذلك بعد الموت، بل يصير كَلًّا ووبالا عليه، وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه، وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله عزوجل.

قال الحسن البصري رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.

إن التنافس في الدنيا ومتاعها المتروك هو أول درجات الحسد، ومما يبين خطورته ما رواه عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجِزْيتِها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صالح أهل البحرين، وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقَدِمَ أبو عبيدة بمالٍ من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فَوَافَوْا صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف تعرَّضوا له، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: «أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ» قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»([5]).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ المُهَاجِرِينَ فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُم عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ»([6]).



https://akhawat.islamway.net/forum/applications/core/interface/imageproxy/imageproxy.php?img=https://www13.0zz0.com/2021/08/02/17/255890834.gif&key=47aa5c4a17d8c59cd6b9bf74aab2fbee4f50aae2310e4acbe1c50f74dfff3fdbhttps://akhawat.islamway.net/forum/applications/core/interface/imageproxy/imageproxy.php?img=https://www13.0zz0.com/2021/08/02/17/255890834.gif&key=47aa5c4a17d8c59cd6b9bf74aab2fbee4f50aae2310e4acbe1c50f74dfff3fdbhttps://akhawat.islamway.net/forum/applications/core/interface/imageproxy/imageproxy.php?img=https://www13.0zz0.com/2021/08/02/17/255890834.gif&key=47aa5c4a17d8c59cd6b9bf74aab2fbee4f50aae2310e4acbe1c50f74dfff3fdbhttps://akhawat.islamway.net/forum/applications/core/interface/imageproxy/imageproxy.php?img=https://www13.0zz0.com/2021/08/02/17/255890834.gif&key=47aa5c4a17d8c59cd6b9bf74aab2fbee4f50aae2310e4acbe1c50f74dfff3fdbhttps://akhawat.islamway.net/forum/applications/core/interface/imageproxy/imageproxy.php?img=https://www13.0zz0.com/2021/08/02/17/255890834.gif&key=47aa5c4a17d8c59cd6b9bf74aab2fbee4f50aae2310e4acbe1c50f74dfff3fdbhttps://akhawat.islamway.net/forum/applications/core/interface/imageproxy/imageproxy.php?img=https://www13.0zz0.com/2021/08/02/17/255890834.gif&key=47aa5c4a17d8c59cd6b9bf74aab2fbee4f50aae2310e4acbe1c50f74dfff3fdb



[1] أي: الجارية.
[2] الحُشاشَةُ: روح القَلب، ورَمَقُ حياة النفس.
[3] أي: دخل وتغلغل بين الأشجار الملتفة المجتمعة في مغيض الماء؛ وهو المكان الذي يهبط فيه الماء من عَلِ.
[4] الهشيم: هو النبات اليابس المتكسر.
[5] صحيح البخاري برقم (3791)، (4/1473)، وصحيح مسلم برقم (7614)، (18/500).
[6] صحيح مسلم برقم (7616)، (19/2).




http://i1.tagstat.com/p1/0/ZkqQhYnD8kC-iJ2YrZE89lZiXSY7OXE6HRgZLX4-0LPV5lTeLWlzNA==.gif?fbclid=IwAR1imvCketbzXVFvKkXuft-lOI_gH_rWxyuw8JgzvQBXfkwQB8iShjVFSmc




لا تمدن عينيك!

إن المؤمن المتمسك بالقرآن العظيم لا يمتد بصره ولا تتحرك نفسه لشيء زائل في هذه الأرض؛ كما جاء التوجيه الحكيم للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} [الحجر : 87 - 88]؛ أي: لا تعجب إعجابا يحملك على إشغال فكرك بشهوات الدنيا التي تمتَّع بها المترفون واغترَّ بها الجاهلون، واستغنِ بما آتاك الله من المثاني والقرآن العظيم.

والعين لا تمتد؛ إنما الذي يمتد ويتوجه هو البصر؛ ولكن التعبير التصويري يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع، وهي صورة طريفة حين يتصورها الإنسان أو يتخيَّلها.
هذه اللفتة كافية للموازنة بين الحق الكبير، والعطاء العظيم الذي مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبين المتاع الصغير الذي يتألق بالبريق وهو ضئيل، وما يليه من توجيه كريم للرسول صلى الله عليه وسلم إلى إهمال القوم المتمتعين، والعناية بالمؤمنين.
فلا يليق بالمؤمنين الأخيار العُجب أو الاغترار بتمتيع الكفار والمنافقين؛ فإنما هو فتنة لهم واختبار، بينما حقيقة النعيم والمتاع في دار الأبرار: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه : 131]؛ أي: لا تمد عينيك معجباً، ولا تكرر النظر مستحسناً أحوال الدنيا والممَتَّعين بها؛ من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء الـمُجَمَّلة؛ فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا؛ التي تُطْلِعُها الدنيا كما يُطْلِع النباتُ زهرتَه لامعةً جذابةً.
والزهرة سريعة الذبول على ما بها من رَوَاءٍ وزَوَاقٍ؛ تبتهج بها النفوس، وتلتذ بها الأبصار، وربما يتمتع بها أقوام دون آخرين، ثم تذهب سريعا وتمضي جميعا، وتقتل محبيها وعشَّاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارا؛ ليعلم من يقف عندها ويغتر بها.
قال قتادة: هي متاع متروكة، أوشكت - والله الذي لا إله إلا هو- أن تَضْمَحِلَّ عن أهلها؛ فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.







http://i1.tagstat.com/p1/0/ZkqQhYnD8kC-iJ2YrZE89lZiXSY7OXE6HRgZLX4-0LPV5lTeLWlzNA==.gif?fbclid=IwAR1imvCketbzXVFvKkXuft-lOI_gH_rWxyuw8JgzvQBXfkwQB8iShjVFSmc






الموفَّق مع الدنيا



إن علامة التوفيق أن يسير العبد في الدنيا وعينه على الآخرة؛ محافظًا على دينه، مبادرًا إلى طاعة ربِّه، مغتنمًا أوقاته في معالي الأمور ليلًا ونهارًا.
قال ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَخَذَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِى، وَقَالَ: «كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ، فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ»([1]).
وفي هذا حثٌّ أكيد على الزهد في الدنيا وفي أهلها، وقلة مخالطة الناس، وأن يكون العبد كالغريب؛ لأن الغريب ليس له معارف؛ فهو قليل الأنس والانبساط إلى الناس، وهو منهم في وحشةٍ وحذرٍ؛ إلا مخالطةً تُعين على ذكر الله وما والاه، يحتسب أجرها، ويؤدي حقها، ويصبر على أذاها.




إن أعظم ما يفسد الدين، وأكثر ما يدفع إلى المعصية والتقصير في أمر الله هو حب الدنيا والتعلق بها، والإكثار من ملذاتها؛ لأن حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي عند الله حقيرة، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقَّر الله.
إن الموفَّق من جعل الدنيا طريقًا للوصول إلى مرضاة الله، وسخَّرها لله والدَّار الآخرة؛ فإن الله لعنها ومقتها وأبغضها؛ إلا ما كان لله ومن أجل الله، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة، ولمقت الله وغضبه.
أحب الدنيا صيَّرها غايتَه، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة، وحينها يكون المرء قد عكس الأمر، وقلب الحكمة؛ فانتكس قلبه، وانعكس سيره إلى وراء.
ومن شؤم محبة الدنيا أنها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه بالخير والنفع في الآخرة؛ لاشتغاله بالمحبوبات والملذات.




إن محبة الدنيا والتعلق بها تجعلها أكثر همّ العبد، كما تجعل مُحِبَّها وعاشقها أشد الناس عذاباً بها؛ حتى يصبح من أَسْفَهِ الخلق، وأقلِّهم عقلًا؛ إذ آثر الخيال على الحقيقة، والمنام على اليقظة، والظل الزائل على الظل الدائم، والدار الفانية على الدار الباقية.
عن عبدالله من مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَركَهَا»([2]).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى مِنْهَا كَافِراً شَرْبَةَ مَاءٍ»([3]).
ولن تطيب الدنيا إلا لمن نظر إليها مدركا حقيقتها ؛ فإن ذلك من أعظم ما يعين على تحمّل مصائبها وشدائدها.
قال علي رضي الله عنه: «من زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات».
فإن الزاهد فيها قد أبصر حقيقتها، وعلم أن المصائب ليست نهاية المطاف، بينما الغارق فيها فإنه من أجلها يحزن ويضيق، وبسببها يعصي ويظلم.


قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه: حب الدنيا رأس كل خطيئة.
وقال الحسن رضي الله عنه: من أحب الدنيا وسرَّته؛ خرج حب الآخرة من قلبه.
وهذا فرق ما بينا وبين الأوائل، وسر علوُّهم وفلاحهم.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: ما أبعدَ هديَكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم ! إنه كان أزهد الناس في الدنيا، وأنتم أرغب الناس فيها.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد الآخرة أضرَّ بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، يا قوم فأَضِرُّوا بالفاني للباقي.
وعنه رضي الله عنه قال: أنتم أطولُ صلاةً وأكثرُ اجتهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا أفضل منكم؟ قيل له: بأي شيء؟ قال: إنهم كانوا أزهدَ في الدنيا، وأرغبَ في الآخرة منكم.


ومما يعين على الزهد في الدنيا: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، واضمحلالها وخِسَّتها، وكذلك النظر في الآخرة، وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات.
قال الحسن رضي الله عنه: الزهد في الدنيا يريح البدن والقلب .
ألا وإن من أعظم ما تنال به محبة الله: الزهد في الدنيا؛ لأنه لا يزهد في الدنيا حقيقةً إلا من أيقن بموعود الله وثوابه وجنته.



لطيفٌ بعباده
هو اللطيف سبحانه بالعباد: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [الشورى: 19]، ولولا لطفه ورحمته بعباده لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعًا عظيمًا، ولهلك حينها الناس أجمعون بالتسارع في الكفر والإسراف في المعاصي: {أأَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 32-35].

فهو سبحانه يبيِّن لعباده سرًّا من أسرار حكمته؛ فلولا أن يعتقد كثير من الناس أن إعطاء الله المال دليل على محبته لمن أعطاه، ويكون ذلك فتنة للفقراء والضعفاء - فيجتمعوا بعد ذلك على الكفر؛ لأجْل المال- لجعل سبحانه لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة، وسلالم من فضة عليها يصعدون، وجعل لبيوتهم أبوابًا من فضة، وجعل لهم سُررًا عليها يتكئون، وجعل لهم ذهبًا، ولزَخْرَفَ لهم دنياهم بأنواع الزخارف، وأعطاهم ما يشتهون.

لكن حقيقة الأمر: ﴿إِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وما كل تلك المفاخر والزخارف والبهارج والزينة والجمال والملذات والشهوات إلا متاع الحياة الدنيا، وزينتها الفانية، إن المال والثراء والجاه والظهور لا يعني الحياة الرفيعة، ولا الآفاق البعيدة، إنه متاع هذه الأرض القريب، والله عنده حسن المرجع والثواب.
وفي هذا تسلية ومواساة للفقراء الذين لا قدرة لهم على الحصول على شهوات الدنيا.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عزَّ وجل ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه؛ كما تحمون مريضكم الطعام والشراب؛ تخافون عليه»([1]).

وهذا من كرم الله وحكمته، ودليل رأفته ورحمته، فهو جل في علاه إذا أحب عبده المؤمن فإنه يحفظه من الدنيا وأموالها ومناصبها، ويبعده عما يضرُّ بدينه منها؛ كما تحمون مريضكم من تناول الطعام والشراب؛ لكونكم تخافون عليه من تناول ما يؤذيه منها؛ فالله -سبحانه وتعالى- خلق عباده على أوصاف شتى، فمنهم القوي والضعيف والوضيع والشريف، فمن عَلِمَ الرحمن من قلبه قوةً على حمل أعباء الفقر الذي هو من أشد البلاء، وصبرًا على تجرع مرارته أفقره -سبحانه- في الدنيا؛ ليرفعه على الأغنياء في العقبى، ومن علم الله ضعفه وعدم احتماله، وأن الفقر ينسيه ربه صرفه -جل وعلا- عنه؛ لأنه لا يحب من عبده أن ينساه أو ينظر إلى من سواه؛ فسبحان الحكيم العليم.
ولهذا في الغالب المشاهد أن الله تعالى قد ملَّك الدنيا للكفار والفسَّاق؛ لهوانهم عليه، وحَمَى منها الأنبياء والصالحين؛ لئلا تُدَنِّسَهُم.






أنور إبراهيم النبراوي
داعية إسلامي وباحث في الدراسات القرآنية والتربوية

ومهتم بشؤون الأسرة