القرآن الكريم

كل ما يخص القرآن الكريم من تجويد وتفسير وكتابة, القرآن الكريم mp3,حفظ وتحميل واستماع. تفسير وحفظ القران

نسخ رابط الموضوع
https://vb.kntosa.com/showthread.php?t=21363
2137 1
05-17-2022 05:44 AM
#1  

افتراضيتفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10



{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}

ساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}
ومعنى {اتقوا رَبَّكُم} أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية، وماذا أفعل لأتقى ربنا؟

أول التقوى أن تؤمن به إلها، وتؤمن أنه إله بعقلك، إنه سبحانه يعرض لك القضية العقلية للناس فيقول: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ} ولم يقل: اتقوا الله، لأن الله مفهومه العبادة، فالإله معبود له أوامر وله نواه، لم يصل الحق بالناس لهذه بعد، إنما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية، والرب هو: المتولى تربية الشىء، خلقاً من عدم وإمدادا من عدم، لكن أليس من حق المتولى خلق الشيء، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة؟

إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة. ونحن نرى الآن أن كل مخترع أو صانع يضع لاختراعه أو للشىء الذي صنعه قانون صيانة، بالله أيخلق سبحانه البشر من عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاؤون؟ أم يقول لهم: اعملوا كذا وكذا ولا تعملوا كذا وكذا، لكى تؤدوا مهمتكم فى الحياة؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} إذن فالمطلوب منهم ان يتقوا، ومعنى يتقوا ان يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب الإله الذي خلقهم، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهودا بها له؟ هو سبحانه يقول: {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} كأن خلقه ربنا لنا مشهود بها، وإلا لو كان مشكوكا فيها لقلنا له: إنك لم تخلقنا- ولله المثل الأعلى؟

أنت تسمع من يقول لك: أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا، فأنت مقر بأنه صنع أم لا؟ فإذا أقررت بأنه صنع فأنت تستجيب لمن يقول لك مثل ذلك الكلام. إذن فقول الله: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} فكأن خلق الله للناس ليس محل جدال ولا شك من أحد، فأراد سبحانه أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى جنابه بالشىء الذي نؤمن به جميعا وهو أنه سبحانه خلقنا إلى الشيء الذي يريده وهو أن نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله، وجاء سبحانه بكلمة (رب) ولم يقل: (اتقوا الله) لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد من عُدم، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق كل الكون فأحسن الخلق والصنع، ولذلك يقول الحق: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] إذن فقضية الخلق قضية مستقرة. ومادامت قضية مستقرة فمعناها: مادمتم آمنتم بأنى خالقكم فلى قدرة إذن، هذه واحدة، وربيتكم إذن فلى حكمة، وإله له قدرة وله حكمة، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما أن نشكر حكمته فنقر به، {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 3dlat.com_03_18_fa1a
لو لم يقل الحق: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} لما كملت، لماذا؟
لأنه سيقول فى آيات آخرى عن الإيجاد: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الذاريات: 49] إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا، والناس تريد أن تدخل فى متاهة. هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أى من نفس آدم؟ أناس قالوا ذلك، وأناس قالوا: لا، {مِنْهَا} تعني من جنسها، ودللوا على ذلك قائلين: حين يقول الله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] أأخذالله محمدا صلى الله عليه وسلم من نفوسنا وكونه؟ لا، إنما هو رسول من جنسنا البشرى، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل؛ لأن خلق حواء قد انطمست المعالم عنه، ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنسانا، ولذلك يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول، وبعد ذلك تكون حواء مثله، فيكون قوله سبحانه: {خَلَقَ مِنْهَا} أي من جنسها، خلقها من طين ثم صورها إلخ؛ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها فى آدم، أو المراد من قوله: {مِنْهَا} أى من الضلع، وهذا شيء لم نشهد أوله، والشيء الذي لم يشهده الإنسان فالحجة فيه تكون ممن شهده، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه المسألة، مسألة كيف خُلقنا، وكيف جئنا؟

إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي؛ ولذلك عندما جاء (دارون) وأراد أن يتكبر ويتكلم، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه، قالت النظرية الحديثة لدارون: إن الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنسانا، لماذا لم تؤثر في بقية القرود ليكونوا أناسا وينعدم جنس القرود؟! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون؛ لذلك نقول: هذا أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل، والحق سبحانه يقول: {ما أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] وما دام لم يشهدهم، فهل يستطيع أحد منهم أن يأتي بعلم فيها؟ إن أحدا لا يأتي بعلم فيها، وبعد ذلك يرد على من يجىء بادعاء علم فيقول: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدا} معنى مضلين أنهم سيضلونكم في الخلق. كأن الله أعطانا مناعة في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا عندما قال: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدا} فقد أوضح لنا طبيعة من يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق.
فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم، ولكن من يقول كذا وكذا، هم المضللون، و(المضللون) هم الذين يلفتونكم عن الحق إلى الباطل. {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى؟ لأنه عندما يُردّ الشىء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى، وإنما هذه ردت إلى واحدة فقط، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة، أما عن نظرية (دارون) وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن، فقام العالم الفرنسي (مونيه) عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أن أصل الإنسان كذا وكذا، وقال: أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير، هل توجد المصادفة ما نسميه (ذكرا) ثم توجد المصادفة شخصا نسميه (أنثى) ويكون من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا جاءا بذكر كالأول أو بأنثى كالثاني؟
كيف تفعل المصادفة هذه العملية؟

سنسلم أن المصادفة خلقت آدم، فهل المصادفة أيضا خلقت له واحدة من جنسه. ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف الغرائز، ثم ينشأ منهما تلقيح يُنشىء ذكرا كالأول أو ينشىء أنثى كالثاني؟ أى مصادفة هذه؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة، سموها مصادفة ونحن نسميها الله.
لقد ظن (مونيه)-هداه الله إلى الإسلام وغفر له- أنه جاء بالدليل الذي يرد به على دارون، نقول له: إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال: {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وهذه هى العظمة إنه خلق الرجل وخلق الأنثى؛ وهى من جنسه، ولكنها تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا أنشأ الله منهما لاجالا ونساء. إذن فهو عملية مقصودة، وعناية وغاية وحكمة، إذن فقول الله سبحانه وتعالى: {الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} هذه جاءت بالدليل الذي هُدى إليه العالم الفرنسى (مونيه) أخيرا. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} وانظروا عظمة الأسلوب في قوله {وَبَثَّ} أى (نشر) وسنقف عند كلمة (نشر) لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض، كى يأخذوا جميعا من خيرات الله في الأرض جميعا.

و(النشر) معناه تفريق المنشور في الحيز، فهناك شىء مطوى وشىء آخر منشور، والشىء المطوى فيه تجمع، والشىء المنشور فيه تفريق وتوزيع، إذن فحيز الشىء المتجمع ضيق، وحيز الشىء المبثوث واسع، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أى من آدم وحواء {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} واكتفى بأن يقول {نِسَآءً} ولم يقل: كثيرات لماذا؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون أقل في العدد من الأنوثة.
وأنت إذا نظرت مثلا في حقل فيه نخل، تجد كم ذكرا من النخيل، وكم أنثى؟ ستجد ذكراً أو اثنين.

إذن القلة في الذكورة مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافا، فإذا قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً} فالذكورة هى العنصر الذي يفترض أن يكون أقل كثيرا، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة؟ لابد أن يكون أكثر، والقرآن يأتى لينبهك إلى المعطيات فى الألفاظ لأن المتكلم هو الله، ولكن إذا نظرت لقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أى من آدم وحواء وهما اثنان {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} فتكون جمعا وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة.
ونريد أن نفهم هذه كى نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق، فهو {بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} والجمع البشرى الذي ظهر من الاثنين سيبث منه أكثر.. وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثا ثالثا، وكلما امتددنا في البث تنشأ كثرة، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جدا من تعداده الآن، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين، ومن قرنين كان أقل عددا، ومن عشرة قرون كان أقل، ومن عشرين قرنا كان أقل، إذن فكلما امتد بك المستقبل بالتعداد يزيد، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالاً كثيراً ونساء وسيبث منهم أيضا عددا أكبر.
تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 3dlat.com_03_18_fa1a
إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة، إن الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفاد وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى احفاد الأحفاد. إذن كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل؛ فالذين كانوا مليوناً من قرن كانوا نصف مليون من قرنين، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط، والعشرة كانوا أربعة، والأربعة كانوا اثنين والاثنان هما آدم وحواء.
فعندما يقول الحق: إنه خلق آدم وحواء، وتحاول أنت تسلسل العالم كله سترجعه لهما، ومادام التكاثر ينشأ من الاثنين، فمن أين جاءا؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء. وكان من الضروري أن تأتي هذه الآية كى تحل لنا اللغز في الإحصاء، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين، وإياك أن تقول إلى واحد، لأن واحداً لا يأتي منه تكاثر، فالتكاثر يأتي من اثنين ومن أين جاء الاثنان؟ لابد أن أحداً خلقهما، وهو قادر على هذا، ويعلمنا الله ذلك فيقول: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} ونأخذ من {بَثَّ} (الانتشار) ولو لم يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع في حيرة وتقول: نسلسل الخلق حتى يصيروا اثنين، والاثنان هذان كيف جاءا؟-إذن لابد أ، نؤمن بأن أحدا قد أوجدهما من غير شىء.
{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً} لأن النشر في الأرض يجب أن يكون خاصا بالرجل، فالحق يقول: {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] والحق يقول: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِه} [الملك: 15] والأنثى تجلس في بيتها تديره لتكون سكنا يسكن إليها، والرجل هو المتحرك في هذا الكون، وهي بذلك تؤدي مهمتها.
وبعدما قال: {اتقوا رَبَّكُمُ} يقول: {اتقوا الله} لقد قدم الدليل أولا على أنه إله قادر، وخلقكم من عدم وأمدكم وسخر العالم لخدمتكم، وقدم دليل البث فى الكون المنشور الذى يوضح أنه إله، فلابد أن تتلقوا تعليماته، ويكون معبودا منكم، أى مطاعا، والطاعة تتطلب منهجا: افعل ولا تفعل، وأنزل الحق القرآن كمنهج خاتم، ويقول: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ}.

انظر إلى (القفشة)، للخلق الجاحد، إنه- سبحانه- بعد أن أخذهم بما يتعاملون ويتراحمون ويتعاطفون به أوضح لهم:- أنتم مع أنكم كنتم على فترة من الرسل إلا أن فطرتكم التي تتغافلون عنها تعترف بالله كخالق لكم.
وأنت إذا أردت إنقاذ أمر من الأمور، وتريد أن تؤثر على من تطلب منه أمراً، تقول: سألتك بالله أن تفعل ذلك، لقد أخذ منهم الدليل، فكونك تقول: سألتك بالله أن تفعل ذلك فلابد أنك سألته بمعظّم، إذن فتعظيم الله أمر فطري في البشر، والمطموس هو المنهج الذي يقول: افعل ولا تفعل. والإنسان من هؤلاء الجاحدين عندما يسهو، ويطلب حاجة تهمه من آخر، فهو يقول له: سألتك بالله أن تفعل كذا. ومادام قد قال: سألتك بالله فكأن هناك قضية فطرية مشتركة هي أن الله هو الحق، وأنه هو الذي يُسأل به، ومادام قد سئل بالله فلن يخيّب رجاء من سأله.

إنه في الأمور التي تريدون بها تحقيق مسائلكم تسألون بالله وتسألون أيضا بالأرحام وتقولون: بحق الرحم الذي بيني وبينك، أنا من أهلك، وأنا قريبك وأمُّنا واحدة، أرجوك أن تحقق لي هذا الأمر. ولماذا جاءت {الأرحام} هنا؟ لأن الناس حين يتساءلون بالأرحام فهم يجعلون المسئولية من الفرد على الفرد طافية في الفكر، فمادمت أنا وأنت من رحم واحد، فيجب أن تقضى لي هذا الشىء. إذن فمرة تسألون بالله الذي خلق، ومرة تسألون بالأرحام لأن الرحم هو السبب المباشر في الوجود المادي، ومثال ذلك قول الحق: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} [النساء: 36] لقد جاء لنا بالوالدين اللذين هما السبب في ايجادنا، والله يريد من كل منا أن يبر والديه، ولكن قبل ذلك لابد أن ينظر إلى الذي أوجدهما، وأن يُصعد الأمر قليلا ليعرف أن الذي أوجدهما هو الله سبحانه.
ويختم الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} لأن كلمة {اتقوا} تعني اجعل بينك وبين غضب ربك وقاية بإنفاذ أوامر الطاعة، واجتناب ما نهى الله عنه {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}، والرقيب من (رقب) إذا انظر ويقال: (مرقب)، ونجد مثل هذا المرقب في المنطقة الت تحتاج إلى حراسة، حيث يوجد (كشك) مبنى فوق السور ليجلس فيه الحارس كى يراقب. ومكان الحراسة يكون أعلى دائما من المنطقة المحروسة، وكلمة (رقيب) تعني ناظرا عن قصد أن ينظر، ويقولون: فلان يراقب فلانا أى ينظره، صحيح أن هناك من يراه ذاهبا وآتيا من غير قصد منهم أن يروه، لكن إن كان مراقبا، فمعنى ذلك أن هناك من يرصده وسبحانه يقول: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} فليس الله بصيرا فقط ولكنه رقيب أيضا- ولله- المثل الأعلى.

نحن نجد الإنسان قد يبصر مالا غاية فى إبصاره، فهو يمر على كثر من الأشياء قيبصرها، لكنه لا يرقب إلا من كان فى باله. والحق سبحانه رقيب علينا جميعا كما في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] وبعد أن تكلم سبحانه عن خلقنا أبا وأما وأنه بث منهما رجالا كثيرا ونساء، أراد أن يحمى هذه المسألة وأن يحمى المبثوث. والمبثوث قسمان: قسم اكتملت له القوة وأصبحت له صلاحية فى أن يحقق أموره النفعية بذاته، وقسم ضعيف ليست له صلاحية فى أن يقوم بأمر ذاته، ولأنه سبحانه يريد تنظيم المجتمع؛ لذلك لابد أن ينظر القادرون في المجتمع إلى القسم الضعيف فى المجتمع، ومن القسم الضعيف الذى يتكلم الله عنه هنا؟ إنهم اليتامى، لماذا؟
لأن الحق سبحانه حينما خلقنا من ذكر وأنثى، آدم وحواء، جعل لنا أطوارا طفولية، فالأب يكدح والأم تحضن، ويربيان الإنسان التربية التي تنبع من الحنان الذاتى ونعرف أن الحنان الذاتى والعاطفة يوجدان فى قلب الأبوين على مقدار حاجة الابن اليهما، الصغير عادة يأخذ من حنان الأب والأم أكثر من الكبير، وهذه عدالة فى التوزيع، لأنك إذا نظرت إلى الولد الصغير والولد الكبير والولد الأكبر، تجد الأكبر أحظهم زمنا مع أبيه وأمه والصغير أقلهم زمنا، فيريد الحق أن يعوض الصغير فيعطى الأب والأم شحنة زائدة من العاطفة تجاهه، وأيضا فإن الكبير قد يستغنى والصغير مازال في حاجة، ولذلك قال سبحانه فى أخوة يوسف: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] أى أنهم أقوياء وظنوا أنه يجب على أبيهم أن يحب الأقوياء. وهذا الظن دليل على أن الأب كان يعلم أنهم عصبة لذلك كان قلبه مغ غير العصبة، وهذا هو الأمر الطبيعي، فهم جاءوا بالدليل الذى هو ضدهم.

إذن فحين يوجد الناشىء الذى يحتاج إلى أن يربى التربية التي يعين عليها الحنان والعطف، فلابد من أن نأتى لليتيم الذى فقد الحنان الأساسى ونقنن له، ويأتى الحق سبحانه وتعالى ليوزع المجتمع الإنسانى قطاعات، ويحمل كل واحد القطاع المباشر له، فإذا حمل كل واحد منا القطاع المباشر له تتداخل العنايات في القطاعات، هذا سيذهب لأبيه وأمه ولأولاد أخيه، وهذا كذلك، فتتجمع الدوائر. وبعد ذلك يعيش المجتمع كله في تكافل، وهو سبحانه يريد أن يجعل وسائل الحنان ذاتية فى كل نفس، ومادام اليتيم يقيم معنا كفرد فلابد من العناية له.
إن اليتيم فرد فقد العائل له ولذلك يقولون: (درة يتيمة) أى وحيدة فريدة، وهكذا اليتيم وحيد فريد، إلا أنهم جاءوا فى الإنسان وفى الأنعام وفى الطير وقالوا: اليتيم فى الإنسان من فقد أباه، واليتيم فى الأنعام من فقد أمه، لماذا؟ لأن الأنعام طلوقة تلقح الذكور فيها الإناث وتنتهى. والأم هى التى تربى وترضع؛ فإذا جاء أحد آخر يمسها تنفر منه.
أما اليتيم فى الطير فمن فقدهما معا. فالطير عادة الزوج منها يألف الآخر؛ ولذلك يتخذان عشا ويتناوبان العناية بالبيض ويعملان معا ففيه حياة أسرية، والحق سبحانه وتعالى جاء فى اليتيم الذى هو مظهر الضعف فى الأسوة الإنسانية وأراد أن يقنن له فقال: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ...}.

  • {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}

    وكيف نؤتى اليتيم ماله وهو لم يبلغ مبلغ الرجال بعد، ونخشى أن، نعطيه المال فيضيعه؟
    انظر إلى دقة العبارة في قوله من بعد ذلك: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وقبل ذلك ماذا نفعل؟ هل ندفع لهم الأموال؟
    الحق يوضح أنك ساعة تكون وليا على مال اليتيم فاحرص جيدا أن تعطى هذا اليتيم ماله كاملا بعد أن يستكمل نضجه كاملا، فأنت حفيظ على هذا المال، وإياك أن تخلط مالك بماله أو تتبدل منه، أى تأخذ الجميل والثمين من عنده وتعطيه من مالك الأقل جمالا أو فائدة.
    إذن فقوله: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} أى أن الله جعل المال لليتيم ولم يجعل للقيم عليه أن يتصرف في هذا المال إلا تصرف صيانة، وأيضا هنا ملحظ آخر هو ما شرحه لنا {وابتلوا اليتامى} فهناك أناس يريدون أن يطيلوا أمد الوصاية على اليتيم، لكى ينتفع الواحد منهم بهذا المال فيوضح سبحانه: لا تنتظر إلى أن يبلغ الرشد ثم تقول ننظره، لا. أنت تدربه بالتجربة فى بعض التصرفات وتنظر أسيحسن التصرف أم لا؟
    إن قول الحق {وابتلوا اليتامى} أى اختبروهم، هل يستطيعون أن يقوموا بمصالحهم وحدهم؟ فإن استطاعوا فاطمئنوا إلى أنهم ساعة يصلون إلى حد الحلم سيحسنون التصرف، أعطوهم أموالهم بعد التجربة؛ لأن اليتيم يعيش في قصور عمرى، وهو سبحانه يفرق بين اليتيم والسفيه، فالسفيه لا يعانى من قصور عمرى بل من قصور عقلى،
    وعندما تكلم سبحانه عن هذه المسألة قال: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] فهل هى أموالكم؟ لا. فحين يكون المرء سفيها فاعلم أنه لا إدارة له على ملكه، وتنتقل إدارة الملكية إلى من يتصرف فى المال تصرفا حكيما، فاحرص على أن تدير مال السفيه كأنه مالك؛ لأنه ليس له قدرة على حسن التصرف. لكن لما يبلغ اليتيم إلى مرحلة الباءة والنكاح والرشد يقول الحق: {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] إنه سبحانه يقول مرة فى الوصاية: {أَمْوَالَكُمُ} وفى العطاء يقول: {أَمْوَالَهُمْ} إذن فهو يريد ألا تبدد المال، ثم يوضح. احرص على ثروة اليتيم أو السفيه وكأنها مالك، لأنه مادام سفيها فمسئولية الولاية مطلوبة منك، والمال ليس ملكا لك. خذ منه ما يقابل إدارة المال وقت السفه أو اليتم، وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعلم القائمين على أمر اليتامى أو على أمر السفهاء الذين لا يحسنون إدارة أموالهم فيقول: {وارزقوهم فِيهَا} [النساء: 5] اجعلوا الزرق مما يخرج منها، وإياكم أن تبقوها عندكم، وإلا فما قيمة ولايتك ووصايتك وقيامك على أمر السفيه أو اليتيم؟ إنك تثمر له المال لا أن تأكله أو لا تحسن التصرف فيه بحيث ينقص كل يوم، لا.
    {وارزقوهم فِيهَا}، و{فى} هنا للسببية، أي ارزقوهم بسببها، ارزقوهم رزقا خارجا منها.

    {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} والخبيث هو الحرام والطيب هو الحلال، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، فقد يكون ضمن مال اليتيم شيء جميل، فيأخذه الوصى لنفسه ويستبدله بمثل له قبيح، مثال ذلك، أن يكون ضمن مال اليتيم فرس جميل، وعند الوصى فرس قبيح فيأخذه ويقول: فرس بفرس، أو جاموسة مكان جاموسة،؟ أو نخلة طيبة بنخلة لا تثمر، هنا يقول الحق: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب}.
    وقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} يعنى إياكم ألا تجعلوا فرقا بين أموالهم وأموالكم فتأكلوا هذه مع تلك، بل فرقوا بين أكل أموالكم والحفاظ على أموالهم لماذا؟ تأتى الاجابة:
    {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} أى إثما فظيعا.

    ثم يتنقل الحق إلى قضية آخرى يجتمع فيها ضعف اليتم، وضعف النوع: ضعف اليتم سواء أكان ذكرا أم أنثى، وإن كانت أنثى فالبلوى أشد؛ فهى قد اجتمع عليها ضعف اليتم وضعف النوع، طبعا فاليتيمة عندما تكون تحت وصاية وليها، يجوز أن يقول: إنها تملك مالا فلماذا لا أتزوجها لكي آخذ المال؟ وهذا يحدث كثيرا.
    ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ...}.
    تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 image.png.bde14b12c9




  • {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)}

    هنا يؤكد الحق الأمر بأن ابتعدوا عن اليتامى. فاليتيم مظنة أن يظلم لضعفه، وبخاصة إذا كان أنثى. إن الظلم بعامة محرم فى غير اليتامى، ولكن الظلم مع الضعيفة كبير، فهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها، فالبالغة الرشيدة من النساء قد تستطيع أن تدفع الظلم عن نفسها.
    وقوله الحق: {وإن خفتم ألا تقسطوا} من (أقسط) أي عدل، والقسط من الألفاظ التى تختلط الأذهان فيها، و(القسط) مرة يطلق ويراد به (العدل) إذا كان مكسور القاف، ولذلك يأتى الحق سبحانه فيقول: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} وهكذا نعرف أن كلمة (قسط) تأتى مرة للعدل ومرة للجور.
    ف (قسط) (يقسط) (قسطا) و(قسوطا) أي ظلم بفتح القاف فى (قسط) وضمها فى (قُسوط).
    والقسط بكسر القاف هو العدل. والقسط بفتح القاف- كما قلنا-هو الظلم وهناك مصدر ثان هو (قسوط) لكن الفعل الواحد، وعندما يقول الحق: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} من أقسط. أي خفتم من عدم العدل وهو الظلم. وهناك فى اللغة ما نسميه همزة الإزالة، وهي همزة تدخل على الفعل فتزيله، مثال ذلك: فلان عتب على فلان، أي لامه على تصرف ما، ويقال لمن تلقى العتاب عندما يرد على صاحب العتاب: أعتبه، أي طمأن خاطره وأزال مصدر العتاب.

    ويقال: محمد عتب على علىّ. فماذا كان موقف علىّ؟ يقال: أعتب محمدا أي طيبب خاطره وأزال العتاب. ويقال أعجم الكتاب. فلا تفهم من ذلك أنه جعل الكتاب معجما، لا، فأعجمه أي أزال إبهامه وغموضه. كذلك (أقسط) أي أزال القسط والظلم. إذن (القسط) هو العدل من أول الأمر، لكن (أقسط. إقساطا) تعنى أنه كان هناك جور أو ظلم وتم رفعه. والأمر ينتهي جميعه إلى العدل. فالعدل إن جاء ابتداء هو: قسط بكسر القاف. وإن جاء بعد جور تمت إزالته فهو إقساط. فحين يقال (أقسط) و(تقسطوا) بالضم فمعناها أنه كان هناك جور وظلم تم رفعه، ولذلك فعندما نقرأ القرآن نجده يقول: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15].
    والقاسطون هنا من القسط- بالفتح- ومن القسوط بالضم، أي من الجور والظلم، ونجد القرآن الكريم يقول أيضاً: {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] أى أن الله يجب الذين إن رأوا ظلما أزالوه وأحلوا محله العدل.
    الحق هنا فى سورة النساء يقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} أى إن خفتم ألا ترفعوا الظلم عن اليتامى، ومعنى أن تخاف من ألا تقسط لأنك بار تعرف كيف تنقذ نفسك من مواطن الزلل.
    أى فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء.

    ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل: اترك واحدة وخذ واحدة، لكنه أوضح: اترك اليتيمة وأمامك النساء الكثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجيء مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولى عن نكاح اليتيمات مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة؛ لأن النساء غيرها كثيرات. {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}.
    وقوله الحق: {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} أى غير المحرمات فى قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} [النساء: 22] وفي قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] إذن فما طاب لكم من النساء غير المحرمات هن اللاتي يحللن للرجل {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} وهنا يجب أن نفهم لماذا جاء هذا النص؛ ولماذا جاء بالمثنى والثلاث والرباع هنا؟
    إنه سبحانه يريد أن يزهد الناس في نكاح اليتيمات مخافة أن تأتى إلى الرجل لحظة ضعف فيتزوج اليتيمة ظالما لها، فأوضح سبحانه: اترك اليتيمة، والنساء غيرها كثير، فأمامك مثنى وثلاث ورباع، وابتعد عن اليتيمة حتى لا تكون طامعا في مالها أن ناظرا في ضعفها أو لأنها لم يعد لها وليّ يقوم على شأنها غيرك.

    ونريد أن نقف هنا وقفة أمام قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} ما معنى مثنى؟
    يقال (مثنى) أي اثنين مكررة، كأن يقال: جاء القوم مثنى، أي ساروا في طابور وصف مكون من اثنين اثنين. هذا يدل على الوحدة الجائية.
    ويقال: جاء القوم ثلاث، أي ساروا في طابور مكون من ثلاثة؛ ثلاثة. ويقال: جاء القوم رباع.
    أي جاء القوم في طابور يسير فيه كل أربعة خلف أربعة أخرى.
    ولو قال واحد: إن المقصود بالمثنى والثلاث والرباع أن يكون المسموح به تسعة من النساء. نقول له: لو حسبنا بمثل ما تحسب، لكان الأمر شاملا لغير ما قصد الله، فالمثنى تعني أربعة، والثلاث تعني ستة، والرباع تعني ثمانية، وبذلك يكون العدد ثمانية عشر، ولكنك لم تفهم، لأن الله لا يخاطب واحدا، لكن الله يخاطب جماعة، فيقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاع}.
    فإذا قال مدرس لتلاميذه: افتحوا كتبكم، أيعني هذا الأمر أن يأتي واحد ليفتح كل الكتب؟ إنه أمر لكل تلميذ بأن يفتح كتابه، لهذا فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا.
    وعندما يقول المدرس: أخرجوا أقلامكم. أي على كل تلميذ أن يخرج قلمه.
    وعندما يقال: اركبوا سياراتكم، أي أن يركب كل واحد سيارته. إذن فمقابله الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقوله الحق: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا} هو قول يخاطب جماعة، فواحد ينكح اثنتين وآخر ينكح ثلاث نساء، وثالث ينكح أربع نساء.
    والحق سبحانه وتعالى حينما يشرع الحكم يشرعه مرة إيجابا ومرة يشرعه إباحة، فلم يوجب ذلك الأمر على الرجل، ولكنه أباح للرجل ذلك، وفيه فرق واضح بين الإيجاب وبين الإباحة. والزواج نفسه حتى من واحدة مباح. إذن ففيه فرق بين أن يلزمك الله أن تفعل وأن يبيح لك أن تفعل. وحين يبيح الله لك أن تفعل ما المرجح في فعلك؟ إنه مجرد رغبتك.

    ولكن إذا أخذت الحكم، فخذ الحكم من كل جوانبه، فلا تأخذ الحكم، بإباحة التعدد ثم تكف عن الحكم بالعدالة، وإلا سينشأ الفساد في الأرض، وأول هذا الفساد أن يتشكك الناس في حكم الله. لماذا؟ لأنك إن أخذت التعدد، وامتنعت عن العدالة فأنت تكون قد أخذت شقا من الحكم، ولم تأخذ الشق الآخر وهو العدل، فالناس تجنح أمام التعدد وتبتعد وتميل عنه لماذا؟ لأن الناس شقوا كثيرا بالتعدد أخذا لحكم الله في التعدد وتركا لحكم الله في العدالة.
    والمنهج الإلهي يجب أن يؤخذ كله، فلماذا تكره الزوجة التعدد؟ لأنها وجدت أن الزوج إذا ما تزوج واحدة عليها التفت بكليته وبخيره وببسمته وحنانه إلى الزوجة الجديدة، لذلك فلابد للمرأة أن تكره زواج الرجل عليها بإمرأة أخرى.
    إن الذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يلزموا أنفسهم بحكم الله أيضا في العدالة، فإن لم تفعلوا فهم يشيعون التمرد على حكم الله، وسيجد الناس حيثيات لهذا التمرد، وسيقال: انظر، إن فلانا تزوج بأخرى وأهمل الأولى، أو ترك أولاده دون رعاية واتجه إلى الزوجة الجديدة.
    فكيف نأخذ إباحة الله في شيء ولا تأخذ إلزامه في شيء آخر، إن من يفعل ذلك يشكك الناس في حكم الله، ويجعل الناس تتمرد على حكم الله- والسطحيون في الفهم يقولون: إنهم معذورون، وهذا منطق لا يتأتى.
    إن آفة الأحكام أن يؤخذ حكم جزئي دون مراعاة الظروف كلها، والذي يأخذ حكماً عن الله لابد أن يأخذ كل منهج الله.

    هات إنسانا عدل في العشرة وفي النفقة وفي البيتوتة وفي المكان وفي الزمان ولم يرجح واحدة على اخرى، فالزوجة الأولى إن فعلت شيئا فهي لن تجد حيثية لها أمام الناس. أما عندما يكون الأمر غير ذلك فإنها سوف تجد الحيثية للاعتراض، والصراخ الذي نسمعه هذه الأيام إنما نشأ من أن بعضا قد أخذ حكم الله في إباحة التعدد ولم يأخذ حكم الله في عدالة المعدد. والعدالة تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار. أما الأمور التي لا خيار للرجل فيها فلم يطالبه الله بها.
    ومن السطحيين من يقول: إن الله قال: اعدلوا، ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل. نقول لهم: بالله أهذا تشريع؟، أيعطي الله باليمين ويسحب بالشمال؟ ألم يشرع الحق على عدم الاستطاعة فقال: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 129] وما دام قد شرع على عدم الاستطاعة في العدل المطلق فهو قد أبقى الحكم ولم يلغه،
    على المؤمن ألا يجعل منهج الله له في حركة حياته عضين بمعنى أنه يأخذ حكما في صالحه ويترك حكما إن كان عليه. فالمنهج من الله يؤخذ جملة واحدة من كل الناس؛ لأن أي انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع بضرر. فكل حق لك هو واجب عند غيرك، فإن أردت أن تأخذك حقك فأدّ واجبك. والذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يأخذوا حكم الله أيضا في العدل، وإلا أعطوا خصوم دين الله حججا قوية في إبطال ما شرع الله، وتغيير ما شرع الله بحجة ما يرونه من آثار أخذ حكم وإهمال حكم آخر.
    والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان، أي أن لكل واحدة من المتعددات مكانا يساوي مكان الأخرى، وفي الزمان، وفي متاع المكان، وفيما يخص الرجل من متاع نفسه، فليس له أن يجعل شيئا له قيمة عند واحدة، وشيئا لا قيمة له عند واحدة أخرى، يأتي مثلا ببجامة (منامة) صوف ويضعها عند واحدة، ويأتي بأخرى عند قماش أقل جودة ويضعها عن واحدة، لا. لابد من المساواة، لا في متاعها فقط، بل متاعك أنت الذي تتمتع به عندها، حتى أن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهن في النعال التي يلبسها في بيته، فيأتي بها من لون واحد وشكل واحد وصنف واحد، وذلك حتى لا تدل واحدة منهن على الأخرة قائلة: إن زوجي يكون عندي أحسن هنداما منه عندك.
    والعدالة المطلوبة- أيضا- هي العدالة فيما يدخل في اختيارك؛ لأن العدالة التي لا تدخل في اختيارك لا يكلف الله بها، فأنت عدلت في المكان، وفي الزمان، وفي المتاع لكل واحدة، وفي المتاع لك عند كل واحدة، ولكن لا يطلب الله منك أن تعدل بميل قلبك وحب نفسك؛ لأن ذلك ليس في مكنتك.
    والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا هذا فيقول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. يعني القلب».

    إذن فهذا معنى قول الحق: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] لأن هناك أشياء لا تدخل في قدرتك، ولا تدخل في اختيارك، كأن ترتاح نفسيا عند واحدة ولا ترتاح نفسيا عند أخرى، أو ترتاح جنسيا عند واحدة ولا ترتاح عند أخرى، لكن الأمر الظاهر للكل يجب أن تكون فيه القسمة بالسوية حتى لا تدل واحدة على واحدة. وإذا كان هذا في النساء المتعددات- وهن عوارض- حيث من الممكن أن يخرج الرجل من أي إمرأة- بطلاق أو فراق فما بالك بأولادها منه؟ لابد أيضا من العدالة.
    والذي يفسد جو الحكم المنهجي لله أن أناسا يجدون رجلا عّدد، فأخذ إباحة الله في التعدد، ثم لم يعدل، فوجدوا أبناءه من واحدة مهملين مشردين، فيأخذون من ذلك حجة على الإسلام. والذين حاولوا أن يفعلوا ما فعلوا في قوانين الأحوال الشخصية إنما نظروا إلى ذلك، التباين الشديد الذي يحدثه بعض الآباء الحمقى نتيجة تفضيل أبناء واحدة على أخرى في المأكل والملبس والتعليم! إذن فالمسلم هو الذي يهجر دينه ويعرضه للنقد والنيل من أعدائه له. فكل إنسان مسلم على ثغرة من ثغرات دين الله تعالى فعليه أن يصون أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته من أي انحراف أو شطط؛ لأن كل مسلم بحركته وبتصرفه يقف على ثغرة من منهج الله، ولا تظنوا أن الثغرات فقط هي الشيء الذي يدخل منه أعداء الله على الأرض كالثغور، لا، الثغرة هي الفجوة حتى في القيم يدخل منها خصم الإسلام لينال من الإسلام.
    إنك إذا ما تصرفت تصرفا لا يليق فأنت فتحت ثغرة لخصوم الله. فسدّ كل ثغرة من هذه الثغرات، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد توسع في العدل بين الزوجات توسعا لم يقف به عند قدرته، وإن وقف به عند اختياره، فالرسول صلى الله عليه وسلم حين مرض كان من الممكن أن يعذره المرض فيستقر في بيت واحدة من نسائه، ولكنه كان يأمر بأن يحمله بعض الصحابة ليطوف على بقية نسائه في أيامهن فأخذ قدرة الغير.
    وكان إذا سافر يقرع بينهن، هذه هي العدالة.

    وحين توجد مثل هذه العدالة يشيع في الناس أن الله لا يشرع إلا حقا، ولا يشرع إلا صدقا، ولا يشرع إلا خيرا. ويسد الباب على كل خصم من خصوم دين الله، حتى لا يجد ثغرة ينفذ منها إلى ما حرم دين الله، وإن لم يستطع المسلم هذه الاستطاعة فليلزم نفسه بواحدة. ومع ذلك حين يلزم المسلم نفسه بزوجة واحدة، هل انتفت العدالة مع النفس الواحدة؟ لا، فلا يصح ولا يستقيم ولا يحل أن يهمل الرجل زوجه. ولذلك حينما شكت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن زوجها لا يأتي إليها وهي واحدة وليس لها ضرائر، فكان عنده أحد الصحابة، فقال له: أفتها (أي أعطها الفتوى).
    قال الصحابي: لك عنده أن يبيت عندك الليلة الرابعة بعد كل ثلاث ليال.
    ذلك أن الصحابي فرض أن لها شريكات ثلاثا، فهي تستحق الليلة الرابعة. وسُر عمر- رضي الله عنه- من الصحابي؛ لأنه عرف كيف يفتي حتى في أمر المرأة الواحدة.

    إذن قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} [النساء: 129] أي لا تظنوا أن المطلوب منكم تكليفيا هو العدالة حتى في ميل القلب وحبه، لا. إنما العدالة في الأمر الاختياري، ومادام الأمر قد خرج عن طاقة النفس وقدرتها فقد قال- سبحانه-: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل}
    ويأخذ السطحيون الذين يريدون أن يبرروا الخروج عن منهج الله فيقولوا: إن المطلوب هو العدل وقد حكم الله أننا لا نستطيع العدل.
    ولهؤلاء نقول: هل يعطي ربنا باليمين ويأخذ بالشمال؟ فكأنه يقول: اعدلوا وأنا أعلم أنكم لن تعدلوا؟ فكيف يتأتى لكم مثل هذا الفهم؟ إن الحق حين قال: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي لا يتعدى العدل ما لا تملكون من الهوى والميل؛ لأن ذلك ليس في إمكانكم، ولذلك قال: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل}.

    نقول ذلك للذين يريدون أن يطلقوا الحكم غير واعين ولا فاهمين عن الله، ونقوله كذلك للفاهمين الذين يريدون أن يدلسوا على منهج الله، وهذه المسألة من المسائل التي تتعرض للأسرة، وربها الرجل. فهب أن رجلا ليس له ميل إلى زوجته، فماذا يكون الموقف؟ أمن الأحسن أن يطلقها ويسرحها، أم تظل عنده ويأتي بامرأة تستطيع نفسه أن ترتاح معها؟ أو يطلق غرائزه في أعراض الناس؟
    إن الحق حينما شرع، إنما شرع دينا متكاملا، لا تأخذ حكما منه لتترك حكما آخر.
    والأحداث التي أرهقت المجتمعات غير المسلمة ألجأتهم إلى كثير من قضايا الإسلام. وأنا لا أحب أن أطيل، هناك بعض الدول تكلمت عن إباحة التعدد لا لأن الإسلام قال به، ولكن لأن ظروفهم الاجتماعية حكمت عليهم أنه لا يحل مشاكلهم إلا هذا، حتى ينهو مسألة الخليلات. والخليلات هنّ اللائي يذهب إليهن الرجال ليهتكوا اعراضهن ويأتوا منهن بلقطاء ليس لهم أب.

    إن من الخير أن تكون المرأة الثانية، امرأة واضحة في المجتمع. ومسألة زواج الرجل منها معروفة للجميع، ويتحمل هو عبء الأسرة كلها. ويمكن لمن يريد أن يستوضح كثيرا من أمر هؤلاء الناس أن يرجع إلى كتاب تفسير في هذا الموضوع للدكتور محمد خفاجة حيث أورد قائمة بالدول وقراراتها في إباحة التعدد عند هذه الآية.
    وهنا يجب أن ننتبه إلى حقيقة وهي: أن التعدد لم يأمر به الله، وإنما أباحه، فالذي ترهقه هذه الحكاية لا يعدد، فالله لم يأمر بالتعدد ولكنه أباح للمؤمن أن يعدد. والمباح أمر يكون المؤمن حرا فيه يستخدم رخصة الإباحة أو لا يستعملها، ثم لنبحث بحثا آخر. إذا كان هناك تعدد في طرف من طرفين فإن كان الطرفان متساويين في العدد، فإن التعدد في واحد لا يتأتى، والمثل هو كالآتي: إذا دخل عشرة أشخاص حجرة وكان بالحجرة عشرة كراسي فكل واحد يجلس على كرسي، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يأخذ واحد كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليمد عليه ساقيه، لكن إذا كان هناك أحد عشر كرسيا، فواحد من الناس يأخذ كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليستند عليه، إذن فتعدد طرف في طرف لا ينشأ إلا من فائض. فإذا لم يكن هناك فائض، فالتعدد- واقعا- يمتنع، لأن كل رجل سيتزوج امرأة واحدة وتنتهي المسألة، ولو أراد أن يعدد الزواج فلن يجد.
    إذن فإباحة التعدد تعطينا أن الله قد أباحه وهو يعلم أنه ممكن لأن هناك فائضا. والفائض كما قلنا معلوم، لأن عدد ذكور كل نوع من الأنواع أقل من عدد الإناث. وضربنا المثل من قبل في النخل وكذلك البيض عندما يتم تفريخه؛ فإننا نجد عددا قليلا من الديوك والبقية إناث. إذن فالإناث في البنات وفي الحيوان وفي كل شيء أكثر من الذكور.
    وإذا كانت الإناث أكثر من الذكور، ثم أخذ كل ذكر مقابله فما مصير الأعداد التي تفيض وتزيد من الإناث؟ إما أن تعف الزائدة فتكبت غرائزها وتحبط، وتنفس في كثير من تصرفاتها بالنسبة للرجل وللمحيط بالرجل، وإما أن تنطلق، تنطلق مع من؟ إنها تنطلق مع متزوج. وإن حدث ذلك فالعلاقات الاجتماعية تفسد.

    ولكن الله حين أباح التعدد أراد أن يجعل منه مندوحة لامتصاص الفائض من النساء؛ ولكن بشرط العدالة.
    وحين يقول الحق: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة} أي إن لم نستطع العدل الاختياري فليلزم الإنسان الواحدة.

    وبعد ذلك يقول الحق: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
    وهناك من يقف عند {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ويتجادل، ونطمئن هؤلاء الذين يقفون عند هذا القول ونقول: لم يعد هناك مصدر الآن لملك اليمين؛ لأن المسلمين الآن في خنوع، وقد اجترأ عليهم الكفار، وصاروا يقتطعون دولا من دولهم. وما هبّ المسلمون ليقفوا لحماية أرض إسلامية. ولم تعد هناك حرب بين مسلمين وكفار، بحيث يكون فيه أسرى، و(ملك اليمين).
    ولكنا ندافع عنه أيام كان هناك ملك يمين. ولنر المعنى الناضج حين يبيح الله متعة السيد بما ملكت يمينه، انظر إلى المعنى، فالإسلام قد جاء ومن بين أهدافه أن يصفي الرقّ، ولم يأت ليجيء بالرق.
    وبعد أن كان لتصفية الرق سبب واحد هو إرادة السيد. عدد الإسلام مصاريف تصفية الرق؛ فارتكاب ذنب ما يقال للمذنب: اعتق رقبة كفارة اليمين. وكفارة ظهار فيؤمر رجل ظاهر من زوجته بأن يعتق رقبة وكفارة فطر في صيام، وكفارة قتل.. إلخ.. إذن فالإسلام يوسع مصارف العتق.
    ومن يوسع مصارف العتق أيريد أن يبقى على الرق، أم يريد أن يصفيه ويمحوه؟

    ولنفترض أن مؤمنا لم يذنب، ولم يفعل ما يستحق أن يعتق من أجله رقبة، وعنده جوار، هنا يضع الإسلام القواعد لمعاملة الجواري:
    -إن لم يكن عندك ما يستحق التكفير، فعليك أن تطعم الجارية مما تأكل وتلبسها ما يلبس أهل بيتك، لا تكلفها ما لا تطيق، فإن كلفتها فأعنها، أي فضل هذا، يدها بيد سيدها وسيدتها، فما الذي ينقصها؟ إن الذي ينقصها إرواء إلحاح الغريزة، وخاصة أنها تكون في بيت للرجل فيه امرأة، وتراها حين تتزين لزوجها، وتراها تخرج في الصباح لتستحم، والنساء عندهن حساسية لهذا الأمر، فتصوروا أن واحدة مما ملكت يمين السيد بهذه المواقف؟ ألا تهاج فيها الغرائز؟

    حين يبيح الله للسيد أن يستمتع بها وأن تستمتع به، فإنه يرحمها من هذه الناحية ويعلمها أنها لا تقل عن سيدتها امرأة الرجل فتتمتع مثلها. ويريد الحق أيضا أن يعمق تصفية الرق، لأنه إن زوجها من رجل رقيق فإنها تظل جارية أمة، والذي تلده يكون رقيقا، لكن عندما تتمتع مع سيدها وتأتي منه بولد، فإنها تكون قد حررت نفسها وحررت ولدها، وفي ذلك زيادة في تصفية الرق، وفي ذلك إكرام لغريزتها. لكن الحمقى يريدون أن يؤاخذوا الإسلام على هذا!!
    يقول الحق: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا} فالعدل او الاكتفاء بواحدة او ما ملكت اليمين، ذلك أقرب ألا تجوروا. وبعض الناس يقول: {أدنى أَلاَّ تَعُولُوا} أي ألا تكثر ذريتهم وعيالهم. ونقول لهم: إن كان كذلك فالحق أباح ما ملكت اليمين، وبذلك يكون السبب في وجود العيال قد اتسع أكثر، وقوله: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا} أي أقرب ألا تظلموا وتجوروا، لأن العول فيه معنى الميل، والعول في الميراث أن تزيد أسهم الأنصباء على الأصل، وهذا معنى عالت المسألة، وإذا ما زاد العدد فإن النصيب في التوزيع ينقص.
    وبعد ذلك يقول الحق: {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ...}.
    نداء الايمان
    تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 image.png.16d7234721




    • {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}
      والمقصود ب {صَدُقَاتِهِنَّ} هو المهور، و{نِحْلَةً} هي العطية، وهل الصداق عطية؟ لا. إنه حق وأجر بضع. ولكن الله يريد أن يوضح لنا: أي فليكن إيتاء المهور للنساء نحلة، أي وازع دين لا حكم قضاء، والنحلة هي العطية.
      وانظر إلى اللمسات الإلهية والأداء الإليهي للمعاني، لأنك إن نظرت إلى الواقع فستجد الآتي: الرجل يتزوج المرأة، وللرجل في المرأة متعة، وللمرأة أيضا متعة أي أن كلا منهما له متعة وشركة في ذلك، وفي رغبة الانجاب، وكان من المفترض ألا تأخذ شيئا، لأنها ستستمتع وأيضا قد تجد ولدا لها، وهي ستعمل في المنزل والرجل سيكدح خارج البيت، ولكن هذه عطية قررها الله كرامة للنساء
      {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة} والأمر في {آتُواْ} لمن؟
      إما أن يكون للزوج فقوله: {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ} يدل صارت زوجة الرجل، وصار الرجل ملزما بالصداق ومن الممكن أن يكون أن يكون دينا على أن المرأة إذا تزوجها بمهر في ذمته يؤديه لها عند يساره، وإمّا أن يكون الأمر لولي أمرها فالذي كان يزوجه أخته مثلا، كان يأخذ المهر له ويتركها دون أن يعطيها مهرها، والأمر في هذه الآية- إذن- إما أن يكون للأزواج وإما أن يكون للأولياء. وحين يُشرع الحق لحماية الحقوق فإنه يفتح المجال لأريحيات الفضل.

      لذلك يقول: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}.
      لقد عرّف الحق الحقوق أولا بمخاطبة الزوج أو ولي الأمر في أن مهر الزوجة لها لأنه أجر البضع. ولكنه سبحانه فتح باب أريحية الفضل فإن تنازلت الزوجة فهذا أمر آخر، وهذا أدعى أن يؤصل العلاقة الزوجية وأن يؤدم بينهما. والمراد هنا هو طيب النفس، وإياك أن تأخذ شيئا من مهر الزوجة التي تحت ولايتك بسبب الحياء، فالمهم أن يكون الأمر عن طيب نفس.
      {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} والهنيء هو الشيء المأكول وتستسيغه حين يدخل فمك. لكنك قد تأكل شيئا هنيئا في اللذة وفي المضغ وفي الأكل ولكنه يورث متعبة صحية. إنه هنيء لكنه غير مريء. والمقصود هو أن يكون طيب الطعم وليس له عواقب صحية رديئة. وهو يختلف عن الطعام الهنيء غير المريء الذي يأكله الإنسان فيطلب من بعده العلاج.
      إذن فكل أكل يكون هنيئا ليس من الضروري أن يكون مريئا. وعلينا أن نلاحظ في الأكل أن يكون هنيئا مريئا.

      والإمام عليّ- رضوان الله عليه وكرم وجهه- جاء له رجل يشتكي وجعا، والإمام عليّ- كما نعرف- مدينة العلم والفتيا، وهبه الله مقدرة على إبداء الرأي والفتوى.
      لم يكن الإمام عليّ طبيبا. لكن الرجل كان يطلب علاجا من فهم الإمام عليّ وإشراقاته.
      قال الإمام عليّ للرجل: خذ من صداق امرأتك درهمين واشتر بهما عسلا، وأذب العسل في ماء مطر نازل لساعته- أي قريب عهد بالله- واشربه فإني سمعت الله يقول في الماء ينزل من السماء: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً} [ق: 9].
      وسمعته سبحانه وتعالى يقول في العسل: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وسمعته يقول في مهر الزوجة: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] فإذا اجتمع في دواء البركة والشفاء الهنيء والمريء عافاك الله إن شاء الله. لقد أخذ الإمام عليّ- رضوان الله عليه وكرم وجهه- عناصر أربعة ليمزجها ويصنع منها دواء ناجعا، كما يصنع الطبيب العلاج من عناصر مختلفة وقد صنع الإمام عليّ علاجا من آيات القرآن.
      وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضايا اليتامى والسفهاء والمال والوصاية والقوامة، فيقول سبحانه: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء...}.
      تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 image.thumb.png.3823
      {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)}

      من هو السفيه؟
      إنه الذي لا صلاح له في عقل ولا يستطيع أن يصرّف ماله بالحكمة. ومَن الذي يعطي ماله إلى سفيه؟ إن الحق يقول ذلك ليعلمنا كيفية التصرف في المال- ومثال على ذلك يقول الحق: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11].
      هل أحد منا يلمز نفسه؟ لا، ولكن الإنسان يلمز خصمه، ولمز الخصم يؤدي إلى لمز النفس لأن خصمه سيلمزه ويعيبه أو لأنكما سواء.
      إذن فقول الحق: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} يعني أن الله يريد أن يقول: إن السفيه يملك المال، إلا أن سفهه يمنعه من أن يحسن التصرف. وعدم التصرف الحكيم يذهب بالمال، ويفسده، وحين يكون سفيهاً فالمال ليس له- تصرفا وإدارة- ولكن المال لمن يصلحه بالقوامة.
      أو أن الحق سبحانه وتعالى يعالج قضية كان لها وجود في المجتمع وهي أنّ الرجل إذا ما كان له أبناء، وكبروا قليلا، فهو يحب أن يتملص من حركة الحياة، ويعطي لهم حق التصرف في المال. وإن كان تصرفهم لا يتفق مع الحكمة، فكأنه قال سبحانه: (لا) إياك أن تعطي أموالك للسفهاء بدعوى أنهم أولادك. وإياك أن تملك أولادك ما وهبه الله لك من رزقك؛ لأن الله جعل من مالك قياما لك، وإياك أن تجعل قيامك أنت في يد غيرك.

      {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً وارزقوهم فِيهَا} وهل السفيه لا يعيش؟ وهل يأكل السفيه دون أكل الرشيد؟ أيلبس السفيه لبس الرشيد؟ أيسكن السفيه دون مسكن الرشيد؟ أيبتسم الإنسان في وجه الرشيد ولا يبتسم في وجه السفيه؟ لا؛ لذلك يأمر الحق ويقول: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا} ذلك أمر بحسن معاملة السفيه، وإياكم أن تعيروهم بسفههم، ويكفيهم ما هم فيه من سفه.
      ويرجع الحق من بعد ذلك إلى اليتامى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا...}.
      تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 image.png.1169984f48




      • {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}
        إن الله سبحانه وتعالى يأمر في التعامل مع اليتامى بأن يبدأ الولي في اختبار اليتيم وتدريبه على إدارة أمواله من قبل الرشد، أي لا تنتظر وقت أن يصل اليتيم إلى حد البلوغ ثم تبتليه بعد ذلك، فقبل أن يبلغ الرشد، لابد أن تجربه في مسائل جزئية فإذا تبين واتضح لك اهتداء منه وحسن تصرف في ماله؛ لحظتها تجد الحكم جاهزا، فلا تضطر إلى تأخير إيتاء الأموال إلى أن تبتليه في رشده. بل عليك أن تختبره وتدربه وتمتحنه وهو تحت ولايتك حتى يأتي أوان بلوغ الرشد فيستطيع أن يتسلم منك ماله ويديره بنفسه. وحتى لا تمر على المال لحظة من رشد صاحبه وهو عندك.
        فسبحانه يقول: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافا} فعندما يبلغ اليتيم الرشد وقد تم تدريبه على حسن إدارة المال. وعرف الوصي أن اليتيم قد استطاع أن يدبر ماله، ومن فور بلوغه الرشد يجب على الوصي أن يدفع إليه ماله، ولا يصح أن يأكل الوصي مال اليتيم إسرافا. والإسراف هو الزيادة في الحد؛ لأنه ليس ماله، إنه مال اليتيم. وعندما قيل لرجل شره: ماذا تريد أيها الشره؟ قال الشره: (أريد قصعة من ثريد أضرب فيها بيدي كما يضرب الولي السوء في مال اليتيم). أنجانا الله وإياكم من هذا الموقف،
        ونجد الحق يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ}.
        إن الحق سبحانه يحذرنا من الإسراف في مال اليتيم في أثناء مرحلة ما قبل الرشد، وذلك من الخوف أن يكبر اليتيم وله عند الولي شيء من المال أي أن يسرف الولي فينفق كل مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم ويرشد، والله سبحانه وتعالى حين يشرع فهو بجلال كماله يشرع تشريعا لا يمنع قوامة الفقير العادل غير الواجد. كان الحق قادرا أن يقول: لا تعطوا الوصية إلا لإنسان عنده مال لأنه في غنى عن مال اليتيم.
        لكن الحق لا يمنع الفقير النزيه صاحب الخبرة والإيمان من الولاية.
        ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى عن الولي: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} فلا يقولن أحد عن أحد آخر: إنه فقير، ولو وضعنا يده على مال اليتيم فإنه يأكله. لا، فهذا قول بمقاييس البشر، لا يجوز أن يمنع أحد فقيرا مؤمنا أن يكون وليا لليتيم؛ لأننا نريد من يملك رصيدا إيمانيا يعلو به فوق الطمع في المال؛ لذلك يقول الحق عن الوصي على مال اليتيم: إن عليه مسئولية واضحة.
        فإن كان غنيا فليستعفف، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وحددوا المعروف بأن يأخذ أجر مثله في العمل الذي يقوم به.

        وكلمة المعروف تعني الأمر المتداول عند الناس، أو أن يأخذ على قدر حاجته. ويقول الحق: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيبا} وانظروا الحماية، هو سبحانه يصنع الحماية للولي أو الوصي، فالحق بعلم خلقه،- وخلقه من الأغيار- والولي على اليتيم لابد أن يلي الأمر بحكمة وحرص، حتى لا يكرهه اليتيم. وربما قد يراضيه في كل شيء. نقول له: لا، أعطه بقدر حتى لا تفسده. فإذا ما أعطى الولي لليتيم بقدر ربما كرهه اليتيم؛ لأن اليتيم قد يرغب في أشياء كمالية لا تصلح له ولا تناسب إمكاناته، وعندما يصل اليتيم إلى سن الرشد قد يتركز كرهه ضد الوصي، فيقول له: لقد أكلت مالي؛ لذلك يوضح الحق للولي أو الوصي: كما حميت اليتيم بحسن ولايتك أحميك أنا من رشد اليتيم.
        لذلك يجب عليك- أيها الولي- حين تدفع المال إليه أن تشهد عليه، لأنك لا تملك الأغيار النفسية، فربما وجد عليك وكرهك؛ لأنك كنت حازما معه على ماله، وكنت تضرب على يده إذا انحرف. وإذا ما كرهك ربما التمس فترة من الفترات وقام ضدك واتهمك بما ليس فيك؛ لذلك لابد من أن تحضر شهودا وعدولا لحظة تسليمه المال. وهذه الشهادة لتستبرئ بها من المال فحسب، أما استبراء الّدين فموكل إلى الله {وكفى بالله حَسِيبا}.
        هذا وإن سورة النساء تعالج الضعف في المرأة والضعف في اليتيم، لأن الحال في المجتمع الذي جاء عليه الإسلام أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار الذين لم تشتد أجنحتهم، وكانت القاعدة الغريبة عندهم هي: من لم يطعن برمح ولم يذد عن حريم أو عن مال ولم يشهد معارك فهو لا يأخذ من التركة. وكانت هذه قمة استضعاف أقوياء لضعفاء. وجاء الإسلام ليصفي هذه القاعدة. بل فرض وأوجب أن تأخذ النساء حقوقهن وكذلك الأطفال، ولهذا قال الحق سبحانه: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ...}.

        تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 image.png.47f3a56ef5




        • {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)}
          من الذي يفرض هذا النصيب؟ إنه الله الذي ملك وهو الذي فرض.
          هنا نلاحظ أن المرحوم الشهيد صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب لحظ ملحظا جميلا هو: كيف يكون للمتوفي أولاد أو نساء محسوبون عليه ولا يأخذون؟ إن الصغار كانوا أولى أن يأخذوا لأن الكبار قد اشتدت أعوادهم وسواعدهم، فالصغار أولى بالرعاية، وأيضا إذا كانت قوانين (مندل) في الوراثة توضح أن الأولاد يرثون من أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم الخصال الحسنة أو السيئة، أو المرض أو العفة أو الخلقة، فلماذا لا تورثونهم أيضا في الأموال؟

          وحين نسمع قول الحق: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} فلابد من أن يوجد فارض، ويوجد مفروض عليه، والفارض هنا هو الله الذي ملك، وفيه فرق دقيق بين (فرض) و(واجب) فالفرض يكون قادما من أعلى، لكن الواجب قد يكون من الإنسان نفسه، فالإنسان قد يوجب على نفسه شيئا.
          وحين يتكلم الحق عن النصيب المفروض، فقد بين أن له قدرا معلوما، ومادام للنصيب قدر معلوم، فلابد أن يتم إيضاحه.. ولم يبين الحق ذلك إلا بعد أن يدخل في العملية أناسا قد لا يورثهم، وهم ممن حول الميت ممن ليسوا بوارثين، ويوضح سبحانه الدعوة إلى إعطاء من لا نصيب له، إياكم أن يلهيكم هذا النصيب المفروض عمن لا نصيب له في التركة.
          لذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ...}.
          تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 image.thumb.png.1f2e

          {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)}

          وحين يحضر أولو القربى واليتامى والمساكين مشهد توزيع المال، وكل واحد من الورثة الذين يتم توزيع مال المورث عليهم انتهت مسائله، قد يقول هؤلاء غير الوارثين: إن الورثة إنما يأخذون غنيمة باردة هبطت عليهم مثل هذا الموقف يترك شيئا في نفوس أولي القربى واليتامى والمساكين.

          صحيح أن أولي القربى واليتامى والمساكين ليسوا وارثين، ولن يأخذوا شيئا من التركة فرضا لهم، ولكنهم حضروا القسمة؛ لذلك يأتي الأمر الحق: {فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا} فلو أنهم لم يحضروا القسمة لاختلف الموقف. فيأمر سبحانه بأن نرزق اليتامى وأولي القربى والمساكين حتى نستل منهم الحقد أو الحسد للوارث، أو الضغن على المورث، ولا يكتفي الحق بالأمر برزق هؤلاء الأقارب واليتامى والمساكين، ولكن يأمر أن نقول لهم: قولا معروفا، مثل أن ندعو الله لهم أن يزيد من رزقهم، وأن يكون لهم أموال وأن يتركوا أولادا ويورثوهم، ومن الذي يجب عليه أن يقوم بمثل هذا العمل؟ إنهم الوارثون إن كانوا قد بلغوا الرشد، ولكن ماذا يكون الموقف لو كان الوارث يتيما؟ فالحضور هم الذين يقولون لأولي القربى واليتامى والمساكين: إنه مال يتيم، وليس لنا ولاية عليه، ولو كان لنا ولاية لأعطيناكم أكثر، وفي مثل هذا القول تطبيب للخاطر.

          {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} يجب أن تكونوا في ذلك الموقف ذاكرين أنه إذا كنتم أنتم الضعفاء واليتامى وغير الوارثين فمن المؤكد أن السرور كان سيدخل إلى قلوبكم لو شرعنا لكم نصيبا من الميراث. إذن فليذكر كل منكم أنه حين يطلب الله منه، أنك قد تكون مرة في موقف من يطلب الله له ولأولاده. إذن فالحكم التشريعي لا يؤخذ من جانب واحد، وهو أنه يُلزم المؤمن بأشياء، ولكن لنأخذ بجانب ذلك أنه يلزم غيره من المؤمنين للمؤمن بأشياء.


          إن الحكم التشريعي يعطيك، ولذلك يأخذ منك. ولهذا قلنا في الزكاة: إياك أن تلحظ يا من تؤدي الزكاة أننا نأخذ منك حيفا ثمرة كدحك وعرقك لنعطيها للناس، نحن نأخذ منك وأنت قادر لنؤمنك إن صرت عاجزا. وسوف نأخذ لك من القادرين. إنه تأمين رباني حكيم.
          ويقول الحق بعد ذلك: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ...}.
          تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 image.png.f029267ae0




        • {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)}
          الإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان. فإن كان عندك أيها المؤمن ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليها، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك.
          وقلنا ذات مرة: إن معاوية وعمرو بن العاص اجتمعا في أواخر حياتهما، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين ماذا بقي لك من حظ الدنيا؟ وكان معاوية قد صار أميرا للمؤمنين ورئيس دولة قوية غنية، فقال معاوية: أما الطعام فقد مللت أطيبه، وأما اللباس فقد سئمت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف.
          وصمت معاوية قليلا وسأل عمرا: وأنت يا عمرو ماذا بقي لك من متع الدنيا؟.

          وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال: أنا حظي عين خرارة في أرض خوارة تدر عليّ حياتي ولولدي بعد مماتي.
          إنه يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير.
          وكان هناك خادم يخدمهما، يقدم لهما المشروبات، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن يداعبه ليشركه معهما في الحديث.
          فقال للخادم: وأنت يا (وردان) ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ أجاب الخادم: بقي لي من متع الدنيا يا أمير المؤمنين صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم كرام لا يؤدونها إليّ طول حياتي حتى تكون لعقبي في عقبهم. لقد فهم الخادم عن الله قوله: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي الله في ذريتهم الضعيفة.

          وقد تكلمنا مرة عن العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام: {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 66-71] لقد جرب العبد الصالح موسى في خرق السفينة- كما توضح الآيات- فقال العبد الصالح: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف: 72-73] ثم ما كان من أمر الغلام الذي قتله العبد الصالح وقول موسى له: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} [الكهف: 74].
          ثم جاءا إلى أهل قرية فطلبا منهم الطعام، وحين يطلب منك ابن السبيل طعاما فاعلم أنها الحاجة الملحة؛ لأنه لو طلب منك مالا فقد تظن أنه يكتنز المال، ولكن إن طلب لقمة يأكلها فهذا أمر واجب عليك.
          فماذا فعل أهل القرية حين طلب العبد الصالح وموسى طعاما لهما؟
          يقول الحق: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] إنها قرية لئيمة، ووجد العبد الصالح في القرية جدارا يريد أن يسقط وينقض فأقامه، واعترض موسى؛ لأن عنده حفيظة على أهل القرية فقد طلبا منهم طعاما فلم يطعموهما، وقال سيدنا موسى: إنك لو شئت لاتخذت عليه أجرا، لأن أهل القرية لئام، وما كان يصح أن تقيم لهم الجدار إلا إذا أخذت منهم أجرا.

          لقد غاب عن موسى ما لم يغّيب الله سبحانه عن العبد الصالح، فبالله لو أن الجدار وقع وهم لئام لا يطعمون من استطعمهم، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين، فلابد أنهم سيغتصبون الكنز. إذن فعندما رأيت الجدار سيقع أقمته حتى أواري الكنز عن هؤلاء اللئام. ويقول الحق سبحانه: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 82]
          إذن فالعلة في هذه العملية هي الحماية لليتيمين، ولنلق بالا ولنهتم بملاحظ النص، لابد أن العبد الصالح قد أقام الجدار بأسلوب جدد عمرا افتراضيا للجدار بحيث إذا بلغ اليتيمان الرشد وقع الجدار أمامهما؛ ليرى كلاهما الكنز، لقد تم بناء الجدار على مثال القنبلة الموقوتة بحيث إذا بلغا الرشد ينهار الجدار ليأخذ الكنز. إنه توقيت إلهي أراده الله؛ لأن والد اليتيمين كان صالحا، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له جنودا لا يعلمهم ولم يرتبهم ليحموا الكنز لولديه اليتيمين، لذلك فلنفهم جيدا في معاملتنا،
          قول الحق: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] لماذا؟ لأن الانسان عندما يكون شابا فذاتيته تكون هي الموجودة. لكن كلما تقدم الإنسان في السن تقدمت ذاتية أولاده عنده، ويحرم نفسه ليعطي أولاده، وعندما يرى أن عياله مازالوا ضعافا، وجاءت له مقدمات الموت فهو يحزن على مفارقة هؤلاء الضعاف، فيوضح الحق لكل عبد طريق الأمان: إنك تستطيع وأنت موجود أن تعطي للضعاف قوة، قوة مستمدة من الالتحام بمنهج الله وخاصة رعاية ما تحت يدك من يتامى، بذلك تؤمن حياة أولادك من بعدك وتموت وأنت مطمئن عليهم.
          والقول السديد من الأوصياء: ألاّ يؤذوا اليتامى، وأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بني ويا ولدي.
          وحين يتقى المؤمن الله فيما بين يديه يرزقه الله بمن يتفي الله في أولاده.
          وما زال الحق يضع المنهج في أمر اليتامى
          {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}

          لماذا يركز القرآن على هذه الجزئية؟ لأن الله يريد من خلقه أن يستقبلوا قدر الله فيمن يحبون وفيمن يحتاجون إليهم برضا، فإذا كان الطفل صغيرا ويرى أباه يسعى في شأنه ويقدم له كل جميل في الحياة وبعد ذلك يموت، فإن كان هذا الصغير قد رأى واحدا مات أبوه وكفله المجتمع الإيماني الذي يعيش في كفالة عوضته عن أب واحد بآباء إيمانيين متعددين، فإذا مات والد هذا الطفل فإنه يستقبل قدر الله وخطبه بدون فزع. فالذي يجعل الناس تستقبل الخطوب بالفزع والجزع والهلع أنهم يرون أن الطفل إذا ما مات أبوه وصار يتيما فإنه يضيع، ويقول الطفل لنفسه: إن إبي عندما يموت سأصير مضيعا. لكن لو أن المجتمع حمى حق اليتيم وصار كل مؤمن أبا لليتيم وكل مؤمنة أما لليتيم لاختلف الأمر، فإذا ما نزل قضاء الله في أبيه فإنه يستقبل القضاء برضا وتسليم.

          {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا} [النساء: 10] إن كل العملية السلبية والنهبية أهم ما فيها هو الأكل؛ لأن الأكل هو المتكرر عند الناس، وهو يختلف عن اللباس، فكل فصل يحتاج الإنسان إلى ملابس تناسبه، لكن الأكل عملية يومية؛ لذلك فأي نهب يكون من أجل الأكل. ولذلك نقول في أمثالنا العامية عن النهاب: (فلان بطنه واسعة) إنها مسألة الأكل.
          وقد أوضح الحق هذا الأمر لأكل مال اليتيم: أنت تحشو في بطنك نارا. ويعني ذلك أنه يأكل في بطنه ما يؤدي إلى النار في الآخرة. وهذا قد يحدث عقابا في الدنيا فيصاب آكل مال اليتيم في بطنه بأمراض تحرق أحشاءه، ويوم القيامة يرى المؤمنون هؤلاء القوم الذين أكلوا مال اليتيم، وعليهم سمات أكل مال اليتيم: فالدخان يخرج من أفواههم. وإياك أن تفهم أن البطون هي التي ستكون ممتلئة بالنار فقط، وإلا يكون هناك نار أمام العيون. بل سيكون في البطون نار وسيصلون سعيرا.

          تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10 image.png.f548ce21ce









05-19-2022 11:42 AM
#2  

افتراضيرد: تفسير الشيخ الشعراوى( سورة النساء)من الآية 1 الى الآية 10

احسنتى النشر
جزاك الله خيرا



اظهار التوقيع
توقيع
احبك ربى
كما شهرزاد.. حكت لتُبقي نفسها على قيد الحياة، أكتبُ لأبقِى نفسي على قيد الحياة. إنّني مع كلّ نصٍّ أكتبه أكتشف حقيقة أخرى مخبأة في داخلي.




الكلمات الدلالية (Tags)
1, 10, النساء)من, الى, الآية, الشيخ, الشعراوى(, تفسير, سورة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:49 PM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11 Beta 4
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

خيارات الاستايل

  • عام
  • اللون الأول
  • اللون الثاني
  • الخط الصغير
  • اخر مشاركة
  • لون الروابط
إرجاع خيارات الاستايل