القرآن الكريم

كل ما يخص القرآن الكريم من تجويد وتفسير وكتابة, القرآن الكريم mp3,حفظ وتحميل واستماع. تفسير وحفظ القران

نسخ رابط الموضوع
https://vb.kntosa.com/showthread.php?t=26419
543 0
انواع عرض الموضوع
10-28-2023 07:20 PM
#1  

افتراضيتفسير الشعراوى(سورة التوبة)107-110﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ


{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}
يقص لنا القرآن هنا حالاً من أحوال المنافقين، وأحوالهم مع الإيمان متعددة. وقد ذكر الحق سبحانه عنهم أشياء صدَّرها بقوله: {وَمنْهُمْ}، {وَمنْهُمْ} و{وَيَحْلِفُونَ}، {وَيَحْلِفُونَ}؛ ولذلك يسميها العلماء (مناهم التوبة)، مثل قوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله...} [التوبة: 75].
وقول الحق: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي...} [التوبة: 61].
وقوله الحق: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي...} [التوبة: 49].
وقال الحق عنهم أيضاً: {وَيَحْلِفُونَ}، {وَيَحْلِفُونَ}، {وَيَحْلِفُونَ} ويقولون عنها: (محالف التوبة)، ويقص الحق هنا حالاً آخر من أحوال المنافقين، وقد قص له نظيراً فيما سبق، وهؤلاء المنافقون- كما قلنا- متعارضون في ملكاتهم، ملكة لسانية تؤمن، وملكة قلبية تكفر. والمزاوجة بين الملكات المتناقضة أمر عسير على النفس وشاق، ويتطلب مجهوداً عاطفيّاً، ومجهوداً عقليّاً، ومجهوداً حركيّاً، فَهُم إذا خَلَوْا إلى شياطينهم قالوا كلاماً، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا كلاماً، ويقص الحق ذلك حين يعلنون الإيمان بألسنتهم في قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا...} [البقرة: 14].
أما إذا خَلَوْا إلى أنفسهم فالحق يصف حالهم: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ...} [البقرة: 14].
وهكذا تُكْبَت ملكات لسانهم في أن يقولوا وقت يكونوا مع المؤمنين، أما حين يكونون مع إخوانهم فهم يُنفِّسون عن ملكاتهم فيقولون قولاً مختلفاً، وهذه مسألة متناقضة؛ ولذلك قال القرآن فيما سبق: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 57].
أي: لو أنهم يجدون مكاناً أميناً، لا يراهم فيه المؤمنون، لنفَّسوا عن أنفسهم، وسبّوا النبي، وسبّوا المؤمنين، وقالوا ما يريدون، إلا أنهم لا يجدون هذا المكان، إنهم يُنفِّسوا عن أنفسهم؛ إذن: {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}، لكنهم لا يجدون.
ويقص الحق سبحانه وتعالى هنا قصة أخرى من أحوالهم فيقول عز وجل: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً...} [التوبة: 107].

نحن نعلم أن كلمة (مسجد) في عمومها هي مكان السجود، وفي الخصوص هي مكان يحجز للسجود وللصلاة فقط، فإن أردت المعنى العام، فكل الأرض مسجد، وتستطيع أن تصلي في أي مكان فيصير مسجداً، لا بالمكان ولكن بالمكين، وبعد ذلك تزاول فيه أعمال الحياة، وقد تصلي في الفصل الدراسي أو المكتب أو المصنع أو الحقل أو في أي مكان تزاول فيه أسباب الحياة.
وبذلك يصبح المكان الذي تصلي فيه مسجداً بالمكين، ولكن هناك مسجد آخر مخصص دائماً للصلاة حين يؤخذ حيز من المكان، ويقال: (حجز ليكون مسجداً)، فلا تباشر فيه أي عملية من عمليات الحياة إلا الصلاة وهو مسجد- بالمكان-، ونحن نعلم أن أول مسجد أسِّس هو مسجد قباء والذين بنوه هم بنو عمرو بن عوف، ثم أراد المنافقون أن يُنفِّسوا عن أنفسهم في صورة طاعة، فبنوا مسجداً ضراراً، وقد بناه بنو غُنْم بن عوف وأرادوا بهذا المسجد أن ينافسوا مسجد قباء.

ونعلم كيف يكون الضرار بين المتنافسين على شيء، كما يحدث الآن تماماً، وتسمع من يقول: ولماذا أقام الحي الفلاني مسجداً، ولم نقُم نحن مسجداً؟
وعلى ذلك فكل مسجد فيه هذه الصفة؛ صفة التنافس للحصول على سمعة أو تحيز لجهة على جهة، أو رياء، فهذا يعتبر مسجداً ضراراً؛ لأن كل هذه المسائل فرقت جماعة المسلمين.
وقد يقول قائل: ولكن هذا الأمر ظاهرة صحية، ونقول: لا، إن لنا أن نعرف أنها ظاهرة مرضية في الإيمان؛ لأنك ترى المسجد وليس فيه صفان مكتملان، ثم يوجد بعده بعدة أمتار مسجد، وهناك مسجد ثالث بعد عدة أمتار، ثم مسجد رابع، فهذه كلها مساجد ضرار.

إذن: ف (المسجد) بمعناه الخاص هو المكان الذي يحيز حتى يصير مسجداً، لا يزاول فيه شيء غير المسجدية، ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى واحداً ينشد ضالته في المسجد، قال له: (لا رد عليك ضالتك) لأن المسجد حين تدخله فأنت تعلن نية الاعتكاف لتكون في حضرة ربك، وعندك من الوقت خارج المسجد ما يكفيك لتتكلم في مسائل الدنيا.
إذن: فهؤلاء القوم أرادوا أن يُنفِّسوا عن نفاقهم بمظهر من مظاهر الطاعة، فقالوا: نقيم مسجداً، وبذلك نفرق جماعة الملسمين، فجماعة يصلون هنا، وجماعة يصلون هناك، وإن قعدنا نحن نصلي فيه فنكون أحراراً، ونتكلم مثلما نريد، أما حين نذهب للصلاة في المسجد الآخر، فنحن نجلس هناك مكبوتين، وغير قادرين على الكلام، ونحن نريد أن ننفس عن أنفسنا.
فهم بَنَوْا المسجد، ثم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي معهم في المسجد الجديد أثناء خروجه لغزوة تبوك فاعتذر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوضح لهم: إننا في حال لا يسمح بذلك، وإن شاء الله عند عودتنا من الغزوة نصلي فيه. وبعد أن عاد من الغزوة حاولوا أن يستوفوه وعده، ويطلبوا منه الوفاء بوعده، فإذا بجبريل ينزل عليه بالآيات التي توضح حكاية هذا المسجد، وكيف أنه مسجد ضرار؛ لأن الله علم نيتهم في ذلك.

ومعنى (الضرار) من المضارة، وأنهم أرادوا أن يأخذوا راحتهم في كل الزمن، وأن يبتعدوا عن التواجد مع المؤمنين في المسجد الذي يصلي فيه رسول الله، ويريدون أن يخلو بعضهم ببعض، وأن يتكلموا كما يريدون في مضارة المسلمين، ويفرقوا بين جماعة المسلمين. ثم يقول سبحانه: {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين}.
إذن: فكل ما يفتت جماعة المسلمين هو أمر ضار بمصلحة الإسلام؛ لأن الإسلام يريد أن يعلم الناس أنهم قوة مجتمعة، ويكون أمر هذه القوة واضحاً؛ ولهذا أباح الحق أن تصلي الصلوات في أي مكان، وحتَّم أن نصلي جميعاً يوم الجمعة في مكان واحد؛ ليفرح المسلمون حين يرون أنفسهم مقبلين على الدين، ويلتقي كل واحد منهم بالآخر؛ ولذلك كان مسجد الضرار هذا تفريقاً بين المسلمين.

ثم يقول سبحانه: {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} والإرصاد هو الترقب، ولذلك يقال: لقد استمر القوم في المكان الفلاني لرصد فلان، أي: أنهم أناس يترقبون مجيئه بمكان ليفتكوا به، وهذا هو ترقب الكراهية لا ترقب الحب. والذين أقاموا هذا المسجد أرصدوه مترقبين ومنتظرين إنساناً له سابقة في عداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي طلب منهم إقامة هذا المسجد وهو (أبو عامر الراهب) وقد سماه رسول الله (الفاسق).
وأبو عامر هذا رجل تنصَّر في الجاهلية، ولم تكن الجاهلية بيئة ديانات، فمن كان مثلاً يسافر إلى مكان ويسمع بدين فهو يأتي به ليدعوا لهذا الدين ويترأس من يتبعونه، وأبو عامر من هؤلاء الذين تنصَّروا وصاروا في المدينة، فلما جاء رسول الله ليبطل كل هذه الأشياء في المدينة وزالت رياسته، عادَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال له في أحد: ما رأيت قوماً يقاتلونك إلا قاتلك معهم. وحين تمكن الإسلام في المدينة فر إلى مكة، ولما فتحت مكة فرّ إلى الطائف، لم يجد له وطناً فذهب إلى الروم (بالشام). ثم كتب للمافقين أن أعدوا مسجداً؛ لأني سأتي لكم بقوة من ملك الروم؛ لأهاجم محمداً وأحاربه وأخرجه من المدينة.

إذن: فهم قد بَنَوْا ذلك المسجد ضراراً، وكفراً، وتفريقاً، وإرصاداً، أي: ترقباً وانتظاراً لذلك الراهب الذي سيذهب إلى الشام ويأتي بجنود لمحاربة الله ورسوله. ورغم أنهم قد فعلوا ذلك، فقد امتلكوا جراءة الطلب من رسول الله ان يصلي معهم فيه بهدف ترسيم هذا المكان مسجداً ليصلى فيه الناس ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى فيه، وظنوا أن هذه المكيدة سوف تفلح، ولكن الله الذي يحرس نبيه، ويحرس دينه من المنافقين، كشف له حقيقة هذا المسجد.
وقد يتغافل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين بعض الشيء لحكمة، فهم قد أخذوا بالإسلام لوناً من الصحبة، ولم يفضحهم أولا حتى لا يقال: إن محمداً يحارب أصحابه؛ لذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم ما لم يكن يعلمه غيره؛ لذلك أراد أن يحمي الإسلام من لسان من لم يعلم. ولكن بعد أن انكشف الأمر أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشم وعامر بن السكن، ووحشيّ قاتل حمزة، ومعن بن عدي ليهدموا هذا المسجد، وأن يجعلوا في موضعه مكان القمامة.
وبذلك فُضِحَ المنافقون، فَأسرّوها في نفوسهم.

وأنت إذا رأيت من عدوك فعلاً تكرهه، فعليك أولاً أن تفسد عليه الفعل، هذه أول مرحلة، فإذا تكرر الفعل منه، ولم يرتدع، لابد أن تضعه في مكانه اللائق به. والمنافقون أرادوا بهذا المسجد الضرر والإضرار بالإسلام، وكان يجب أن يكفوا عن مثل هذا العمل ما دام الحق قد كشفهم. لكنهم لم يكفوا، وظلوا سادرين في العداوة للإسلام؛ لذلك كان لابد كما تخلصت أولاً من الفعل أن تتخلص من الفاعل؛ لذلك أصبحوا خائفين من أن يتجه الردع إلى الفاعل، والحق سبحانه يقول: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].
ونعلم أن المريب يكاد أن يقول: خذوني. إنه بسلوكه إنما يدل على نفسه، ويأتي القرآن في سورة ثانية فيقول: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ...} [المنافقون: 4].
وهم يتصرفون هكذا لأن الريبة تملأ أعماقهم، وكلما رأى واحد منهم مؤمناً يسير إلى ناحيته يظن أنه جاء ليؤدبه ضرباً أو قتلاً.

والحق سبحانه يقول هنا: {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ}، وكلمة {مِن قَبْلُ} فيها إيحاء بأن لهم سوابق في محاربة رسول الله بغرض ان يؤذوه صلى الله عليه وسلم، ولكن الحق سبحانه يحميه دائماً، ولم يعد هناك مكر أو حرب يمكن أن ينالوا بها منه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الأمر أمثلة كثيرة، فالقرآن حينما يقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال اليهود ويوضح له: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق...} [البقرة: 61].
أليس هذا القول يدفع في خاطره احتمال أن يقتلوه؟ بلى فهم ما دامت عندهم الجرأة على قتل الأنبياء فما الذي يمنعهم من قتله؟ لكن الحق يطمئنه ويكبتهم ويقطع عندهم الأمل، ويأتي قوله الحق: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ...} [البقرة: 91].
وقوله: {مِن قَبْلُ} هنا يعني أن ذلك لن يحدث الآن، فقد اختلف الموقف. وهكذا طمأن الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك كُبتت هذه الفكرة إن فكروا فيها.

وأيضاً حين يأتي القرآن بشيء في نيتهم أن يفعلوه، ولم يفعلوا بعد، ويفضحهم القرآن بإعلان ما في نيتهم، ومن غبائهم فهم يفعلون الأمر المفضوح، ولو كان عندهم قليل من ذكاء لامتنعوا عن فعل ما فضحهم به القرآن.
ويتمثل ذلك في أحد المواقف التي يحلفون فيها، ولو كان فيهم رجل رشيد يملك التفكير المتوازن لقال لهم: إنكم سوف تحلفون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} فلا تحلفوا حتى يشك المسلمون في القرآن، ومن غبائهم أيضا أنهم حلفوا في أمر لهم فيه اختيار أن يفعلوه أو لا يفعلوه، مثلما قال الحق سبحانه: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا...} [البقرة: 142].
إنهم لم يكونوا قد قالوا بعد، وأنزل الحق ذلك في قرآن يتلى كل صلاة، ويعرفه كل مسلم، فيكف يقولون نفس القول بعد أن نزل به القرآن؟ لقد فعل اليهود ذلك؛ وهم بهذا الفعل قد اختاروا أن يكونوا سفهاء، ولم يخرج منهم عاقل واحد يحثهم على ألا يقولوا.

وهنا يقول الحق: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} والحق هنا قد أكد الأمر حين جاء بلام القطع. وهم قد أسهموا وقالوا: وما أردنا باتخاذ هذا المسجد إلا مصلحة المسلمين ولنيسر على المعذورين والمرضى، والعاجزين عن السير إلى المسجد الآخر، وإن كانت ليلة مطيرة أو ليلة شاتية، فيستطيع الناس أن يجدوا مسجداً ثانياً ليصلوا فيه، ولكن حكم الله ينزل {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.



{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}
فهل قوله الحق: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} معناه ألأن يظل المسجد قائما ولا تقام فيه صلاة؟ هل {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} صيغتها النهي، أي لا تُصَلِّ فيه، أم أنها إخبار من الحق بأنك لن تقيم فيه صلاة أبداً؛ لأنه لن يكون له وجود؟
إن قوله الحق سبحانه يعني أن هذا المسجد يجب ألا يكون له وجود، ثم تجد الله سبحانه يقول: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} إذن: فالمسألة ليست في بناء المسجد، ولكنها فيمن يدخل المسجد ويعمره، فهنا مسجد، وهناك مسجد، أما المسجد الأول فقد أسس على التقوى، وفيه أناس يحبون أن يتطهروا، أما مسجد الضرار فقد أقامه منافقون يحبّون أن يتقذروا؛ لأنهم المقابل لمن يحبون أن يتطهروا.
ومعنى الحب هو ميل الطبع إلى شيء تنبسط له النفس وتخفُّ لعمله.

وحينما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل مع ذلك من غيره؟».
وهنا قال أهل قباء: (لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء)، وكان الواحد منهم يمسك الحجر ويمسح به محل قضاء الحاجة؛ فيخفف من استخدام المياه؛ لأن المياه كانت قليلة عندهم، ثم يستخدم الماء بعد الأحجار ليكمل ويتم نظافته، وأضافوا: (ولا نبيت على جنابة، ولا نُصرّ على ذنب، فإن غلبنا الذنب تعجّلنا التوبة).

{يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} والحب هنا متبادل، فلا شيء أقسى على النفس من أن يكون الحب من طرف واحد، وهذا هو الشقاء بعينه. والشاعر يقول:
أنتَ الحبِيبُ ولَكنِّي أعُوذُ بِكَ ** مِنْ أنْ أكُونَ حَبِيباً غَيْرَ مَحْبُوبِ
وشقاء المحبين أن يكون الحب من جانب واحد، أما حين يكون الحب متبادلاً من الحانبين فهو قمة الإيعاد والإبعاد، فحين تكون العداوة من جانبين فهي تأخذ قمة الإسعاد، وكذلك حين تكون العداوة من جانبين فهي تأخذ قمة الإيعاد والإبعاد، فحين تكون العداوة من جانب واحد، تنتهي بسرعة، لكن عندما تكون من الجانبين فإنها لا تنتهي بل تزداد اشتعالاً.
إذن: فحين يكون الحب متبادلاً تجد المحب كلما رأى حبّاً من حبيبه رد عليه بحب، فينمو الحب ويزداد، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا كان حب القلوب فيما لا يتغير وهو (الحب في الله)، فإذا رأيت حبّاً بين اثنين يتناقص بمرور الزمن؛ فاعلم أنه حب لغير الله، وإن رأيت الحب ينمو كل يوم، فاعلم أنه حب في الله.
والحق سبحانه يقول في قصة فرعون وموسى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً...} [القصص: 8].
هم لم يلتقطوه ليكون عدواً لهم؛ فهذا الاحتمال لو كان قد جاء في بال آل فرعون لقتلوه، ولكنهم التقطوه ليكون قرة عين لهم، فانظر كيف يدخل الله على تغفيل الكافرين به، فآل فرعون هم من يربون موسى؛ ولذلك قال له فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18].
ولكن موسى عليه السلام لا يجامل في الحق؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو من ربّاه، أما تربية فرعون فلم يكن لها اعتبار في ميزان الحق، وقد تكون العداوة هينة لو كانت من جانب موسى وحده، ولكن شاء سبحانه ألا تكون العداوة من جانب موسى فقط، بل من جانب فرعون أيضاً، فيقول سبحانه: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ...} [طه: 39].
ويقول سبحانه في مجال الحب المتبادل: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...} [المائدة: 54].
فحين يحبون الله يرد سبحانه على تحية الحب بحب زائد، وهم يردون على تحية الحب منه سبحانه بحب زائد، وهكذا تتوالى زيادات وزيادات؛ حتى نصل إلى قمة الحب، ولكن الحب عند الله لا نهاية له، وأنت حين تقرأ قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى...} [النمل: 59].
ويقول سبحانه أيضاً: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ...} [الأحزاب: 44].
لم يأت سبحانه هنا ب (ال) التعريفية؛ لأنها لو جاءت لانحصرت السلام في لون واحد. فأنت حين تقول: لَقيت الرجل، فأنت تحدد الرجل. لكنك إنْ قلت: لقيت رجلاً. فقد يكون الرجل هذا أو ذاك أو غيرهما. فإن جاء الاسم نكرة صار شائعاً، أما إن كان بالتعريف فيكون محدداً.
والحق حين تكلم عن يحيى عليه السلام قال: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} [مريم: 15].
لأنه يريد أن يكثر السلام. وحين تكلم عيسى عليه السلام عن نفسه قال: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33].
وحين يلقاك إنسان فهو يقول لك: (سلام عليكم)، وأنت ترد: (وعليكم السلام)، لماذا؟ لأن (سلام عليكم) معناها أن السلام منى يكون عليك وعلى غيرك، أما ردُّك (وعليكم السلام) فيعني أنك خَصَصْته بهذا السلام.

وهنا الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها زادت في التحية حيث يقول الحق سبحانه: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} وهذا لأن الذي يحب أن يكون طاهراً دائماً، قد أنس بفيوضات الله عليه، وما دامت ذراته كلها طاهرة من النجاسات المعنوية ومن النجاسات الحسية يصبح جهاز استقبال الفيوضات من الله عنده صالحاً دائماً للاستقبال، والحق سبحانه وتعالى يرسل إمداداته في كل لحظة، ولا تنتهي إمداداته على الخلق أبداً، وسبحانه يصف نفسه بأنه القيوم فاطمئنوا أنتم، فإن كنتم تريدون أن تناموا فناموا؛ فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم.
إذن: فقد جاء الإيمان ليريحنا إلا ليتعبنا، كما أنه سبحانه يصف نفسه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ...} [المائدة: 64].
أي: يطمئن الخلق أنهم بمجرد إيمانهم ستأتيهم إمدادات الله وفيوضاته المعنوية والمادية. فصحِّح جهاز استقبالك؛ بألا توجد فيه نجاسة حسيّة أو نجاسة معنوية؛ ولذلك إذا رأيت إنساناً عنده فيوضات من الحق فاعلم أن ذرات جسمه مبنية من حلال، ولا توجد به قذارة معنوية، ولا قذارة حسّية، ويتضح ذلك كله على ملامح وجهه، وكلماته، وحسن استقباله. وإن كان أسمر اللون فتجده يأسرك ويخطف قلبك بنورانيته. وقد تجد إنساناً أبيض اللون لكن ليس في وجهه نور؛ لأن فيوضات ربنا غير متجلية عليه.


وكيف تأتي الفيوضات؟ إنها تأتي بتنقية النفس؛ لأن الإنسان إن افتقر إلى الفيوضات الربانية، فعليه أن يبحث في جهازه الاستقبالي. وأضرب هنا مثلاً بالإرسال الإذاعي، فمحطات الإذاعة ترسل، ومن يملك جهاو استقبال سليم فهو يلتقط البث الإذاعي، أما إن كان جهاز الاستقبال فاسداً فهذا لا يعني أن محطات الإذاعة لا تبث برامجها.
ولذلك قال الحق: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ...} [المائدة: 64].
فاحرص دائماً على أن تتناول من يد ربك المدد الذي لا ينتهي، والحديث الشريف يقول: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها).
والليل قد ينتهي عند إنسان، ويبدأ عند إنسان آخر، وهكذا النهار، فالليل مستمر دائماً والنهار مستمر دائماً، فيداه سبحانه مبسوطتان دائما ولا تنقبضان أبداً.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}
وقوله: {أَفَمَنْ} استفهام، وكأنه يقول: وكيف تساوون بين مسجد أسِّسَ على التقوى من أول يوم، ومسجد اتُّخِذ للضرار وللكفر ولتفريق جماعة المسلمين وإرصاداً لمن حارب الله؟
إنهما لا يستويان أبداً، وساعة يطرح الحق هذه العملية بالاستفهام فسبحانه واثق من أن عبده سيجيب بما يريد الله.
وقوله الحق: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} نجد كلمة (بنيان) وهي مصدر؛ (بنى) (بنياناً)، لكن أطلق على الشيء المبني، فنقول، إن هذا البنيان فرعوني.

إّذن: هناك فرق بين عملية البناء وبين الشيء الذي ينشأ من هذه العملية، وكلمة البنيان اسم جنس جمعي؛ لأنه يصح أن يكون جمعاً ومفرده (بنيانة) مثلما نقول: (رمان)، ومفرده (رمانة)، و(عنب) ومفرده(عنبة) ، وأيضا(روم) مفرده(رومي) فياء النسب هنا دخلت على الجمع فجعلته مفرداً. إذن: يُفرق بين الواحد والجمع، إما بالياء وإما بالتاء.
وقد حكم سبحانه بألا يصلوا في مسجد الضرار، وعليهم أن يصلوا في المسجد الآخر، وهو مسجد قباء، ثم يرد سبحانه الأمر إلى المؤمنين، ليعرفوا أن ما حكم به سبحانه هو ما تقبله العقول، وأن حكمهم يوافق حكم ربهم.
ثم يقول سبحانه: {أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وهنا ثلاث كلمات: شفا، وجُرف، وهَار. والشفا مأخوذ من الشَّفَة، و(الشفا) حرف الشيء وطرفه. وسكانُ سواحل البحار يعرفون أن البحار لها نحر من تحت الأرض، وتجد الماء يحفر لنفسه مساحة تحت الأرض ويترك شفة من الأرض، ولو سار عليها الإنسان لوقع؛ لأنها الطرف الذي ليس له قاعدة وأسفله مَنْحور.
و(شفا جُرُف) أي طرف سينهار؛ لأنه(هار) أي غير متماسك، فتكون الصورة أن الماء ينحر في الساحل، فيصنع شفة لها سطح وليس لها قاعدة تحتها، وهذه اسمها(شفا جُرُف) .
وقد قال القرآن في موضع آخر: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا...} [آل عمران: 103].
إنها الحفرة في النار، فكيف يكون شكلها؟ لابد أنه مرعب.

ونحن نعلم أنهم كانوا حين يحفرون الآبارليخأذوا منها الماء، كانوا يضعون في جدار البئر أحجاراً تمنع ردمه؛ لأن البئر إن لم يكن له جدار من حجارة قد ينهار بفعل سقوط الرمال من على فوهته، وهكذا تمنع الأحجار أي جزء متآكل من سطح البئر من الوقوع فيه، والجزء المتآكل هو جرف هَارٍ، وهكذا كان مسجد الضرار، ينهار بمن فيه في نار جهنم.
ويذيل الحق الآية: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} وهم كانوا ظالمين بالنفاق؛ لذلك لم يَهْدِهم الله إلى عمل الخير؛ لأن الله لا يهدي الظالم. وسبحانه يقول في أكثر من موضع بالقرآن: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108].
ويقول سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264].
ويقول عز وجل: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258].
والهداية- كما علمنا من قبل- قسمان: هداية الدلالة، وهي لجميع الخلق ويدل بها الناس على طريق الخير، ولهم أن يسلكوه أو لا يسلكوه، فهم أحرار، فلله هداية شملت الجميع، وهي هداية الدلالة، أما الهداية المنفية هنا فهي هداية المعونة.
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
البنيان الذي بنوا هو مسجد الضرار، وأرادوا به ضرراً وكفراً وتفريقاً وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدهم أن يصلي فيه، وكشف له الحق أنهم أرادوا بصلاة رسول الله فيه ذريعة وأن يرسموا الصلاة فيه.
ولما عاد صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أنزل الله عليه: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} وأرسل صلى الله عليه وسلم بعضاً من صحابته ليهدموا هذا المسجد، ولم يكتف بالهدم، بل أمر أن يُجْعَل مكان المسجد قمامة إشعاراً منه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد بنيته الأولى كانت نجاسته نجاسة معنوية، وحين توضع فيه النجاسة الحسّية، تكون طهارة بالنسبة للنجاسة المعنوية، فكأنه طهر المكان من النجاسة المعنوية بالنجاسة الحسيّة.

ورسول الله يعلمنا هنا أن الأمر ليس أمر نجاسات حسيّة، وإنما النجاسات المعنوية أفظع من النجاسات الحسيّة، فالإنسان قد يتحرز من النجاسات الحسيّة، لكن النجاسات التي تخامر القلوب والعقائد والعواطف فهي التي تسبب للإنسان الشقاء.
وهنا يقول الحق: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} فبعد أن هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البنيان وصار موقعه موضع القذارة، بقي أمر هذا البنيان موضع شك منهم وصاروا يتوجسون أن ينزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العقاب، وظلوا في شك من ان يصيبهم رسول الله بسوء، ولن يذهب هذا الشك من قلوبهم إلا أن تقطع تلك القلوب بالموت.

إن الشك والريبة محلها القلب، والقلب هو العضو الثاني في استبقاء الحياة، أما العضو الأول في استبقاء الحياة فهو المخ، فما دامت خلايا المخ سليمة، فمن الممكن أن تعود الحياة إلى الإنسان ولكن برتابة، أما القلب فحين يتوقف فالأطباء يحاولون أن يعيدوا له الحركة، إما بشق الصدر أو تدليك القلب ليعود إليه النبض، وقد يفلحون ما دامت خلايا المخ سليمة، فالمخ في الإنسان هو سيد الجسم كله، ولذلك تجدون أن الحق قد صان المخ بأقوى الصيانات بعظام الجمجمة.
وكذلك النخاعات التي تتحكم في إدارة الجسد، نجده سبحانه قد كفل لها من العظام أعلى درجات الصيانة. وترى في الحفريات أن الجماجم هي أبقى شيء، مما يدل على أنه للحفاظ على المخ قد جعل الله له أقوى العظام، وما دام المخ سيد الجسم سليماً فمن الممكن أن تستمر الحياة، ولذلك نجد أن الجسم كله يخدم المدبر للجسم، ويحافظ على صيانته.

والإنسان إن تعرض للجوع يأكل من شحمه، وحين يفوته ميعاد تناوله للطعام، يعرض عليه الطعام يقول: ليس لي رغبة في الأكل، وهذا ليس إلاّ تعبيراً علمياً لما حدث في الجسم، فأنت أكلت بالفعل، فما دام قد مر ميعاد طعامك ولم تأكل فإن جسمك يأخذ ما يحتاجه من الدهون المخزونة به، وإذا ما انتهى الدهن يأخذ الإنسان من لحمه، وإذا ما انتهى اللحم يأخذ الإنسان غذاءه من عظامه، وكل ذلك من أجل أن يبقى السيد وهو (المخ) مصاناً.
ولذلك تجد القرآن حيثما عرض مسألة سيدنا زكريا، قال على لسانه: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي...} [مريم: 4].
أي: أن آخر مخزن للقوت قد قارب على الانتهاء، أما النبات فهو عكس الإنسان، فسيد النبات أسفل شيء فيه وهو الجذر، ويحاول النبات المحافظة على جذره، فإن امتنع الغذاء عن النبات بامتناع المياه عنه، بدأت أوراق النبات في الذبول؛ لأنها تعطي حيويتها ومائيتها للجذر، ثم تجد الساق تجف لأنها تعطي حياة للجذر ليستمر إلى أن يأتي قليل من المياه أو قليل من الغذاء، فيعود الجذر قويّاً.
والقلب هو محل العقائد والاعتقادات، وهي الأشياء التي تنشأ من المحسّات، وتتكون في الفؤاد لتصير عقائد لا تطفو للمناقشة من جديد، أما العقل فهو يناقش كل المسائل، وما إن ينتهي من الاقتناع بفكرة حتى تستقر في القلب.
وهنا يوضح لنا الله أن هذا البنيان سيظل أثره في قلوبهم، ولن ينتهي منهم أبداً إلا بشيء واحد هو: {أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} والقلوب لا تتقطع إلا بالموت، وكأن الشك من هذا البنيان سيظل يلاحقهم إلى أن يموتوا.
أو: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي: أن تتقطع توبة وأسفاً وحزناً.
وهذا تهديد لهم بأنهم مسيئاتهم ليست من الخارج، وإنما مسيئاتهم من ذوات نفوسهم. ووجود الريبة في نفوسهم، يعني أنها لن تجعلهم يستشرون في الإفساد لخوفهم المستمر من العقاب.
ثم يقول سبحانه: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وعلمه سبحانه شامل فلا تخفى عليه خافية، وحكمته سبحانه أنه يضع كل شيء في مكانه.

نداء الايمان








الكلمات الدلالية (Tags)
فِي, قُلُوبِهِمْ, يَزَالُ, الَّذِي, التوبة)107-110﴿لَا, الشعراوى(سورة, بَنَوْا, بُنْيَانُهُمُ, تفسير, رِيبَةً


الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تفسير الشعراوى(سورة التوبة)82﴿ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا ,,, ) امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 10-16-2023 11:26 AM
تفسيرالشعراوى(سورة الأعراف)174-175(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) امانى يسرى محمد القرآن الكريم 1 10-11-2023 02:13 PM
تفسير الشعراوى(سورة الأعراف)145-147( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 04-06-2023 05:39 AM
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ ) امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 06-07-2022 05:06 AM
اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ العافيَةَ في ديني ودُنْيَايَ وأَهْلي ومَال كنتوسه هانم السنة النبوية الشريفة 0 03-13-2019 01:01 AM


الساعة الآن 06:43 PM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11 Beta 4
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

خيارات الاستايل

  • عام
  • اللون الأول
  • اللون الثاني
  • الخط الصغير
  • اخر مشاركة
  • لون الروابط
إرجاع خيارات الاستايل